إيليا عدلي يكتب : كارهة الفنجان!
27 مارس، 2017 تويته وستاتيوس, مقالات واراء
كثيراً ما جلس في الشرفة المتسعة لمنزله، المطلة على حديقة منزله الفخم، يستمع ويستمتع لمعشوقه عبدالحليم حافظ يشدو: “.. من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقود.. مفقود”، لم يكن كما هو الآن؛ بل كان بهيجاً مقبلاً على الحياة، حالماً، يفيض حيوية وانطلاقاً.. تقدمت نحوه بخطى ثقيلة حزينة، بعد أن فتح لي الخادم باب غرفته، وأرشدني لموقع جلساته الطويلة بشرفته.. ملجأه الدائم منذ تركته زوجته.. غارقاً بذهنه، لم يلتفت لقدومي، لم يسمع وقع أقدامي الثقيلة فوق أرضية الشرفة الخشبية، التي تزعج أذاني وسط هدوء الموت هذا، القابع حول فيلته الفسيحة، حتى آلاف العصافير التي سكنت أشجار الحديقة أمامه هاجرت عن المكان، الذي إمتلأ بدخان سجائره المستمر، امتلأت طفاية سجائره بالعشرات من فلاترها المحترقة من لهيب أنفاسه الهاربة من جحيم قلبه المشتعل. استراح بذقنه فوق يده اليسرى الموضوعة على سور الشرفة ويده اليمنى متدلية خارجها، ممسكة بسيجارة ضعف رمادها الطويل عن التماسك؛ فسقط على حشائش الحديقة مكوناً كومة من الرماد فوق رماد مئات السيجارات السابقة.. نظر لأسفل نحو الرماد وكأنه يفكر: هل يستطيع هذا الرماد دفن أحزانه أو ينتظر رماد جسده ليقوم بتلك المهمة الصعبة! تسمرت مكاني حزيناً، لم أربت على ظهره، تركته سارحاً نحو خضرة حديقته قليلاً، وأنا سارحٌ في الماضي حين استدعاني فرحاً لأقابله؛ ليجعلني – كصديقه الأقرب – أول من يعرف تلامس قلبه مع عالم الحب والعشق.. اجلسني في نفس هذه الشرفة، ضغط على زر الكاسيت، اسمعني عبدالحليم حافظ في جملة مخصوصة: “..بحياتك يا ولدي امرأة سبحان المعبود، فمها مرسوم كالعنقود، ضحكتها أنغام وورود، والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا.”.. أراد بهذه الجملة أن يصف كم هي منطلقة ومجنونة حبيبته، وأكمل في حماسة العاشق وصف ثقافة حبيبته وحبها للحياة وكم هي اجتماعية، تكره القيود، تؤمن بحرية المرأة، تؤمن به وبأفكاره، وأخيراً أحبته وأقرت له حين صارحها وسألها في رحلة التخرج من الجامعة.. تذكرت كم كنت سعيداً بصديقي، دعوته للعشاء على نفقتي احتفالاً بسعادته، ولكن ظل شيء ما في داخلي يقلقني بشأن هذه العلاقة الوليدة.. إنها معرفتي بصديقي، فأنا أحفظه عن ظهر قلب، وأثناء سكرة الحب هذه أعرفه أكثر مما يعرف نفسه، فإنه شاب شرقي صعيدي الأصل والفكر، وما أقلقني أكثر آراءه السابقة المتحفظة عن حرية المرأة، بالرغم من محاولاته الظهور بمظهر المدافع عن حرية المرأة، لكن في حالات خاصة بأسرته طفى عقله الباطن الصعيدي على السطح، وخنق النظريات بالواقع وآثار تربيته وثقافة بيئته.. ولكن لم أريد قتل سعادته بأحاسيسي التي قد تكون ساذجة، لا تقدر تماسك علاقة هذين الحبيبين. امتد زمن وقوفي خلفه في الشرفة، لمحته مغمض عينيه؛ فلم آخذ قرار ايقاظه بعد، وكأنني لا أريد ازعاج شخص يغط في النوم.. وبدلاً من ذلك عدت بذاكرتي إلى ليال طوال ينتهي من مكالماته التليفونية ب”دنيا” خطيبته ويحادثني طويلاً عن سعادتهما واقتراب زواجهما الذي تم سريعاً لجاهزية صديقي المالية وميراثه الكبير عن والديه. رفع ذقنه قليلاً عن سور الشرفة وزفر تنهيدة طويلة ذكرتني بأول محادثة حزينة معي، بعد زواجهما السعيد بعامين.. شكا لي تمرد “دنيا” عليه، وشكا نفسه معترفاً برجعية فكره أمام حرية المرأة وانطلاقها.. كانت البداية مشكلة ساذجة جداً، حيث أن “دنيا” كانت منهمكة في تحضير كلمتها التي ستلقيها في ندوة حقوق المرأة حين كان صديقي بشرفته يستمتع بعبدالحليم حافظ يغرد: “.. جلست والخوف بعينيها.. تتأمل فنجاني المقلوب”؛ فتحمس لطلب فنجان من القهوة تعده “دنيا” بيدها وتجلس بجواره للاستمتاع بصحبته، فاعتذرت وسارعت بالخروج مع صديقتها حسب موعدها المسبق؛ فخرج الرجل الشرقي من قمقمه، وتطور الموقف حين عودتها من تفسيرات متبادلة بالإهمال إلى اتهامات متبادلة بعدم الحب الحقيقي، ثم جاءت الطامة الكبرى بالعند المتبادل، ثم جاء الانفصال، وأثناء كل هذه الأحداث المتسارعة فشلت أنا في اقناع الطرفين بالتنازل قليلاً، لم أقوى على عِند شرقية وصعيدية صديقي، وهزمتني حرية “دنيا” وتمردها.. وهكذا ظل صديقي يستمع لقارئة الفنجان، ويظل يعيد جملة: “.. مقدروك أن تمضي أبداً في بحر الحب بغير قلوع، وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع.” ما يؤلمني في علاقتهما أنني على يقين أن كل منهما يحب الآخر بجنون.. وما يدفعني للجنون أن السبب الأول لكل تلك الأحداث هو “فنجان قهوة” يعشقه صديقي وطلبه من حبيبته “كارهة الفنجان”؛ ليظل صديقي هكذا أمامي يعاني الاكتئاب الحاد كوصف طبيبه، وأما دنيا فهي نزيلة إحدى المصحات النفسية الخاصة، بعد هياجها المفاجيء على أحد المتحرشين وضربه بكرسي حديدي بأحد المقاهي تسببت له باصابات خطيرة بالرأس.. لم تتحمل تبرؤ منظمة المرأة من تصرفها، ولم تتحمل انفصالها عن حبيبها.. أزورها بانتظام بتوصية من صديقي الذي يرسل لها مصاريف علاجها بانتظام. قررت أخيراً أن أربت على كتفه؛ فالتفت إليّ شارداً ذابل الوجه شاحباً، سحب نفساً عميقاً من دخان سيجارته وأشار للكاسيت أمامه: “شغل الكاسيت” .. على الفور شغلت له الكاسيت؛ لينطلق عبدالحليم: “.. وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً، مكسور الوجدان.. وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان.”