الأحد , ديسمبر 22 2024
إيليا عدلي عضو اتحاد كتاب مصر

إيليا عدلي يكتب : ياريتني كنت معاهم!

أحدثكم وأنا مسترخي بظهري الهَرِم على كرسيَ ذو الذراعين الكبيرين، أسند ذراعيَ الذابلين فوقهما؛ لكيلا تحتك عظام كوعي الهشة ببعضهما وتزيد من آلام رجل كهل تجاوز التسعين.. كل حركة لي يجب أن تكون محسوبة بطيئة، حتى رفع “الريموت كنترول” لتغيير القنوات التي تتنافس على شاشة التليفزيون على الحائط أمامي، التي يزيد عددها عن عدد ما تبقى من خلايا جسمي الباقية على قيد الحياة.. أنا كهل بطيء، ممل.. حتى أحفادي وأطفالهم يملون من حركتي البطيئة في ظل عنفوان سرعة شبابهم.. هم يمرحون الآن أمامي، يقذفون التحيات والقبلات الطائرة لي.. عذراً.. انهم ليسوا أحفادي.. إنه التليفزيون.. لا تؤاخذوني وتحملوا “الزهايمر”، فانا مصاب به منذ أعوام، ونسيت أن أخبركم أن أحفادي وأولادهم ليسوا بالقرب مني، ولا حتى بنفس الدولة، ولا القارة التي أعيش بها.. لا ألومهم على انتهاز فرصة الهجرة من هنا، أسامحهم بسبب ما عانوه هنا.. كنت أود أن أقص عليكم ما عانوه، ولكن الله رحمني بذاكرة هزيلة، ماتت فيها معظم ذكرياتي. أعتقد أنكم مللتم مني كأحفادي المشاغبين هؤلاء، ولكن كلامي سالف الذكر ليس بموضوعي الرئيسي الذي أود أن أقصه عليكم وأناقشه معكم.. لا تملوا بسرعة أرجوكم، فأنا رجل كهل أحتاج من يصبر عَلَي ويرحم ضعفي.. وإن سمعتم مني بعض الهلاوس فأغفروها لي؛ فالأدوية التي تخفف آلامي، تخفف أيضاً عدد خلايا مخي كل يوم! ولكن موضوعي الرئيسي لكم سيجذب انتباهكم وقد يشيب له الطفل منكم.. بالطبع كلكم بالنسبة لسني أطفالٌ.. أنا يا أحفادي أعاني من ندمي على فرص عديدة مرت عليَ في حياتي كي أموت شاباً، موتة سريعة سهلة، يفتخر بها أحفادي لعدة أجيال، ولكنني فوت تلك الفرص جميعها.. حتى وصلت لهذا السن الذي أموت فيه ببطء يؤلمني.. أتعجل الموت كل يوم، خصوصاً إذا هاجمتني آلام عظامي المبرحة.. حينها أتذكر كم جبنت وأنا في العشرين عن المشاركة مع أحمس في معركته مع الهكسوس، كنت مرعوباً من مصير “كاموس” بلا طائل.. والآن تمنيت لو كنت معهم. كم كنت غبياً وأنا في الثلاثين وهربت من مدينة إسنا لكيلا أقع تحت سيوف جنود “دقلديانوس”..وتمنيت الآن لو كنت معهم.. ألست غبياً؟! أهرب من هذا المجد إلى عذاب هذا السن المؤلم.. كم فكرت أن أنهي ما تبقى من حياتي والعذاب المصاحب له، ولكن وأنا على أعتاب الوقوف أمام الله لا أجرؤ على ضياع الآخرة مني، وأنا أؤمن بوجوده هناك، يرقبني في انتظار تقبلي هذا العقاب، الذي لا أنكر أنني استلذ به أحياناً، واعتبره تصفية وتكفير لكل جُبن ارتكبته في شبابي، لكل فرصة موت كريمة جائتني وأنا شاب، أو حتى أقل شيباً مما أنا عليه.. وأضعتها! وفي الأربعين من العمر لم أصلي بكنيسة القديسَيْن حين تفجيرها، وارسال من بها للسماء سريعاً، ولم أتواجد بالبطرسية حين زُفّت القديسات فيها للملكوت.. وفي الخمسين، ومن فوق عكازي المجهد أرى شموخ العظماء على الشاطيء الليبي، راكعين بأرجلهم الفتية، مرفوعين الهامة مبتسمين للملائكة المنتظرة.. وأنا أنتظر هنا.. لم يتبقى لي سوى حطام إنسان، ينتظر الدود مستغرباً من روحي المتمسكة بجسدي، مما يعطلهم عن وجبتهم التي ينهونها في أيام قلائل.. ثم يبحثون عن التالي دوره. اغفروا لذاكرتي الهَرِمة أرجوكم.. تذكرت الآن أنني لازلت شاباً.. وطأت قدمي الخامسة والعشرين منذ أسابيع، تراودني الهلاوس وأحلام اليقظة والنسيان والتناسي والطناش، وكل ميكانيزمات الدفاع النفسية التي ذكرها سيجموند فرويد في أبحاثه للنفس البشرية المتألمة من واقع شبه مجنون، ما بالكم من واقع كامل الجنون والهياج؟!.. هل تلومونني على ذلك ومن مثلي، وقد هَرِمنا شباباً؟!!

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.