د.ماجد عزت إسرائيل
هذا المقال بمناسبة الذكرى الثامنة على رحيل أمى الحبيبة الطيبة(1931-2009م)،التى تنيحت(توفيت) فى 23
فبراير2009م،فى ليلة بدء الصوم المقدس،وللعائلة ذكريات من الأحزان مع هذا الشهر مع العلم أن هذا الشهر
يحتفل العالم كله بعيد الحب،ولكننى دائما أحب أن انتظر ما بعد الحب،فقد توفى أخى جمال عن عمر 34 سنة،وأمى
وخالتى وأبنها واليوم 21 فبراير2017م أيضًا توفى ابن خالتى،ومن مشاهير مصر والعالم نذكر على سبيل المثال،
الدكتور بطرس بطرس غالى ،والكاتب محمد حسنين هيكل.
كانت أمى الحبيبة الطيبة دائما تسعى لعمل الخير، ولكن الخير الذى ينبع من الضمير الأنسانى الذى يقدمه الأنسان
بمحبته الداخلية،ولكي نحكم على أي عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيرًا في وسيلته..
وخيرًا في هدفه، وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتيجته.كما ذكر المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث عن الخير
قائلاً:إن الذي يريد أن يعرف الخير،عليه أن يتواضع..ومن يتواضع فيسأل غيره، ويقرأ ويبحث ويتأمل، محاولًا أن
يصل وأن يفهم.. وحينما يسأل، عليه أن يسأل الروحيين المتواضعين الذين يكشف لهم الله أسراره. وعليه أن يسأل
الحكماء الفاهمين ذوى المعرفة الحقيقية والإدراك العميق. وكما قال الشاعر: فخذوا العلم على أربابه..
واطلبوا الحكمة عند الحكماء، لو كنا جميعًا نعرف الخير، ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف.. علينا إذن – في تواضع
القلب – أن نصلى كما صلى داود النبي من قبل: “علمني يا رب طرقك، فهمني سبلك”.إن الصلاة بلا شك هي وسيلة
أساسية لمعرفة الحق والخير، وبها يكشف الله للناس الطريق السليم الصحيح. الخير هو طبيعة الله ولا شيء آخر.
أما الشر هو عكس الخير،أو إذا جاز لنا التعبير هو انحراف عن عمل الخير؛ أو غياب الخير أى غياب الضمير
الأنسانى، كما أن الظلمة هي غياب النور، وللشر أنواع منها الشر الطبيعى نتيجة نقص في الطبيعة يجب أن لا يكون
مثل الزلازل والبراكين والفيضانات والمجاعات والأمراض،كل هذا يسبب آلاماً مبرحة تسحق العديد من
الكائنات،وهناك الشر البشرى من صنع البشر والمجتماعات والجماعات التى تسعى للحروب يحدث الدمار والشرور
مثل الحرب العالمية الأولى 1914-1918م،والحرب العالمية الثانية 1939-1945م،والمذابح الأرمينية التى راح
ضحاياه نحو مليون ونصف نسمه وأن كان الهولوكوست اليهودي أكبر نسبيا.
أما علاجه كما كانت أمي الحبية الطيبة تحدثنا بالابتعاد عنه كانت تستخدم الأمثال الشعبية البسيطة فتذكر قائله” ابعد
عن الشر وغنيله”، وأيضًا “الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح”،وكذلك كانت تردد لنا كلمات من الكتاب
المقدس فى كل صباح ونحن ذاهبون للمدرسة أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ،َارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ.
أما الحياة والموت فى نظر أمى الحبيبة الطيبة،كانت دائما ترى أن المجتمعات المختلفة أستطاعت من خلال تعدد
أنماطها الاستمرار فى الحياة من خلال إعادة إنتاج(توالد) البشر، وعملية التوالد تقف نقيضاً لعملية
الانحلال(الموت)، ولذا نجد أن القدماء المصريون، اهتمواً ، بالموت مع كراهيتهم له وتعلقوا بالأمل في البعث
بعد الموت،فقد كتبوا عنه “الموت أمر بغيض يجلب الدموع والأحزان، ويخطف الرجل من بيته ويلقي به على كثيب
رملي في الصحراء لن نعــود إلى الأرض أو نرى الشــــمس”وكــانوا يعتقدون في الحياة الآخرة، ويرجع ذلك إلى
طبيعة البيئة المصرية القديمة والفترات الطويلة من التأمل في الظواهر الطبيعية ، خاصة في شروق الشمس وكأنها
تولد، وفي غروبها وكأنها تموت،ثم بزوغها من جديد في اليوم التالي،وهكـــذا رأوا أن الموت امتداد للحياة وأن
الحياة امتداد للموت. ودائما ما كانت أمى الحبيبة الطيبة ترد كلمات الكتاب المقدس وخاصة قبل النوم عن الموت
والحياة فتقول مع القديس لوقا البشر ” أَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا
فَلِلرَّبِّ نَحْنُ”.
كانت أمى الحبيبة الطيبة تتميز بالسرد التاريخى للأحداث وخاصة العادات والتقاليد عن الموت عند الأقباط،فتذكر أن
أقباط مصر منذ القرن الاول الميلادى وحتى يومنا هذا، تمسكوا ببعض العادات والتقاليد التي صاحبت مختلف أحداث
حياتهم ومناسباتها الاجتماعية، وشكلت شيئًا هامًّا لديهم فحافظوا عليها والتزموا بها، كنوع من التشبس بتراث
متوارث عن الآباء والأجداد، وكشكل من أشكال الخصوصية تميزهم بين المجتمع المصري، ولا ننكر أن الأقباط
سعى إلى حماية عاداتهم وتقاليدهم وهى التى من أجلها تحملوا الكثير من الأتعاب المادية والمعنوية ،ومنها ما تم
وراثته من الفراعنة ومن هذه العادات عادة النياحة (الموت)على المتوفى، اللطم على الوجه والصدر، ودهن الوجه
بالسواد، وكانت هذه العادة – وما زالت – منتشرة في جميع أنحاء مصر، مدنها وقراها، فلم يكن يتم دفن الميت قبل
أن تتم هذه المراسم، لذلك امتهنت بعض النساء هذه المهنة وقامت بتنظيمها، وربما استعن في عملهن بالدفوف
والطارات، ولايزال الأقباط يمارسونها بطقوسها القبطية فلم توجد حلقات اللطم والحزن كما كانت عند الفراعنة،بل
حالات صلاة دينية تعرف بصلاة (الجنازة) لأن الأقباط يؤمنون أن حياتهم على الأرض ما هي إلا مرحلة للأنتقال
للسماء،ولذلك يتم زف الميت للسماء بعد الصلاة أى قبل مرحلة الدفن مباشرة،وكانت المقابر القبطية ذات قيمة
كبيرة،ومرتفعة التكاليف وربما أغلى من ثمن المنزل الذى كان يعيش فيه الميت،ويتم شرائها مثلما أشترى أبونا
إبراهيم أبو الآباء قبرا لزوجته سارة،واشترى بعض أراخنة الكنائس مدافن للفقراء كنوع من الصدقة،وأيضًا
خصصت الكنيسة القبطية مقابر للفقراء والغرباء من أموال الأوقاف والتبرعات.
وكان من عادة الأهالي في حالات الوفاة أن يجهز الطعام لأهل المتوفى يوم الوفاة، وعند رجوع المشيعين من
الجنازة يتوجهون إلى منزل المتوفى، فيقوم أهله بتقديم الطعام السابق إعداده فيعتذرون ولا يأكلون، ثم تقدم إليهم
القهوة فلا يشربون، لأنهم كانوا يعدون تناول الطعام أو الشراب من الأشياء المعيبة التي يتجنبها الجميع في مثل
هذه المناسبات،ولذلك أوجدت الكنيسة القبطية صلاة تعرف بـ “الثالث” ثالث يوم لرحيل الميت ، ويقوم بها كاهن من
الكنيسة ويصلى على رغيف من الخبز وعود أخضر من البقدونس أو أى شىء أخضر،هدفها نهاية أستقبال المعزين
حتى لا يجددون الأحزان مرة آخرى،ويأكل فيها أهل الميت والمصلين معا، كما أن زيارة المقابر، وصلاة الأربعين أى
بعد وفاة الميت بنحو 40 يوماً ،هى من العادات الفرعونية القديمة ولكنها صبغت بطقوس الكنيسة القبطية.
على أية حال،كان الموت فى الثقافة بشكل عام وحياة الإنسان بشكل خاص هو نهاية الحياة لأى نظام اجتماعى حى
مثل الأجساد والجماعات والمجتمعات، الموت ينهى الفعل الاجتماعى والممارسات الاجتماعية، ولذلك نظر إلى
الموت فى ثقافتنا الشرقية، بإنه شر وقدر محتوم، ولكنه استمرار للحياة بشكل أو بآخر، كذلك يمكن أن يساهم جسد
المتوفى رمزياً فى إعادة ميلاد الحياة. وهناك علاقة بين الأحياء بالأموات من خلال الممارسات الاجتماعية من
ممارسة أستكمال طقوس الدفن، والرغبة القوية لدى الأحياء كى يظلوا على اتصال بالآخرين الأعزاء الذين رحلوا
عنهم، بزيارتهم كى تظل علاقاتهم موصولة، وهذه العلاقات تصورها لنا أغانى الموت الحزينة التى تعبر عن ألالم
والحزن والتى لا تخف حدتها خلال فترة الحداد(غالبا أربعين يوماً)، ويؤدى هذا النوع من الغناء من خلق شعور
بالمواساة والسلوى لدى الأحياء غير القادرين على تقبل الموت، كما تسهم فى إحداث تحول من الشعور بعدم قبول
الموت إلى قبوله فى النهاية عن طريق تأكيد استحالة عودة المتوفى. على أية حال، سار التفكير الفلسفى على
خطين فيما يتعلق بالموت والحياة، أحدهما يدرس الحياة من حدها، ويرى أن الموت هو الذى يعطى الحياة معنى
بالنسبة لنا نحن الكائنات المتناهية الفانية. فمن فكرة أفلاطون عن “التدريب على الموت” إلى التحليل الوجودىلـ
هايدجر والذى كشف عن”الوجود نحو الموت”، كان التيار الرئيسى للفلسفة الغربية مخلصاً دائماً، لهذا الخط.
وهناك جانب آخر من الفلاسفة وهم قلة فى واقع الأمر، ساروا على نهج “أبيقور” القائلة بأن:” الموت هو لا
شىء”،فإذا كن الموت مجرد لا شىء ولا معنى له بالنسبة للحياة، فلن نستطيع أن ندرس الحياة من حدها، بل على
العكس يجب أن ندرسها لذاتها، وحينها سيتضح معنى الحياة من داخلها. وهذا الخط من فلسفة الحياة والموت عبر
عنه الفيلسوف الهولندى” سبينوزا” الذى عاش فى القرن السابع عشر الميلادى وقال:” الموت هو أخر ما يفكر فيه الرجل الحر”.
خلاصته:
كانت أمى الحبيبة الطيبة بسيطة فى حياته وتفكيرها فى الموت فكانت لصقه أية من (رسالة بولس الرسول إلى أهل
فيلبي 1: 23) على سريرها للتذكر برحيل الإنسان “لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا.
للحديث بقية.
أتمنى لكم جمعيا حياة سعيدة ملؤها السلام والمحبة .