الجمعة , نوفمبر 22 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

عصفور الحرية

مدحت موريس 

عندما تراه تجد عينيك تتجه نحوه كل بضع دقائق، وفى كل مرة تكتشف شيئاً جديداً…..طائر صغير….جميل….وضعيف…حبيساً لقفص حديدى، فى وسط الجمال ترى حزناً دفيناً مؤكداً ينبعث من عينيه….انه وبلا شك حزن الحرمان من الحرية…. الم الجسد المحبوس وانين العقل المحصور بين جدران اربعة صماء.

هكذا قلت لنفسى و مجموعة من الكلمات الشهيرة والاقوال المأثورة التى تتغنى وتتفنن فى وصف الحرية تمر برأسى وأمام عينى بموسيقاها الحالمة وكلها تصب فى اتجاه وحيد وتدور حول معنى واحد….” الحرية لا تُقدر بثمن”.

لم أدر كم مرة نظرت نحو الطائر الحزين، لكنى وجدته ينظر نحوى نظرة اعتقدت أننى فهمتها جيداً فمددت يدى – دون تردد – فاتحاً باب القفص للعصفور الصغير…..فتحت الباب عن آخره…لم أفكر فى صاحب القفص..أقصد صاحب العصفور ولم أهتم بالغضب الذى سينتابه عندما يرى القفص فارغاً فقط انصب اهتمامى على أن ينال العصفور حريته الضائعة….ووقفت منتظراً رد فعل الطائر الصغيرفاذ به يقف ساكناً وكأن الدهشة الجمته، ابتعدت خطوات مرتداً الى الخلف متعمداً ان امنحه الامان لعل رهبته تتبدد….ووقفت بعيداً اترقب…..ماهى الا ثوان حتى بدأ العصفور الصغير فى القفز عدة قفزات رشيقة… داخل القفص، ثم بدأ يحرك جناحيه الصغيرين فقلت لنفسى لعله يختبرهما من بعد طول انتظار – ووبعد لحظات اقترب من باب القفص المفتوح ووقف امامه متردداً ثم بعدها انطلق بخفة محلقاً فى أنحاء الغرفة دورتين كاملتين ودون ان اشعر انطلقت منى صيحة مشجعة للعصفور الصغير الى ان وجدته يتجه نحو نافذة الحجرة.

وقف العصفور على حافة النافذة ناظراً نحو الأفق البعيد، حرك رأسه يميناً ويساراً عدة مرات وانا مازلت على حالى اترقب كاتماً انفاسى لكن صوتى ارتفع بالصياح من جديد بعدما طار الطير خارجاً بينما اسرعت و طللت من النافذة وانا اودعه واشير اليه مشجعاً ،ظلت عيناى تتابعانه فرأيته يحلق طائراً فى دورات قصيرة بعدها انطلق مختفياً خلف المبنى. .

غمرنى الارتياح وانفرجت أساريرى وترددت شعارات بداخلى كلها تعبر عن جمال الشعور بالحرية، وغمرتنى سعادة فاقت توقعى لشعورى بأننى قدمت صنيعاً طيباً لمخلوق ضعيف متخيلاً الطائر الذى منحته حريته وهو يحلق ويرفرف بجناحيه فى كل الأنحاء. …انفتح باب غرفة المكتب التى كنت انتظر بها حيث دخل رجل الأعمال الكبير السن والمقام والذى كنت بانتظاره.

دخل الرجل مرحباً بى فهو يعرفنى منذ كنت طفلاُ باعتباره صديقاً قديماً للأسرة. نظر نظرة عابرة للقفص الخالى وهو يتجه ليجلس على مقعد مكتبه فاسترعى خواء القفص انتباهه وتوقعت ان يسألنى عن القفص الذى اختفى عصفوره فبادرته قبل أن يتساءل شارحاً له ما حدث وما فعلته مع العصفور وانا اتحدث بفلسفة وثقة لا يتناسبان مع تدخلى فيما لا يعنينى وتصرفى فيما لا املك.

لكن رد الفعل المفاجئ للرجل وابتسامته الغامضة وايضاً ثقته الحقيقية والغير مصطنعة بنفسه كلها امور كانت كافية لان تبدد الثقة المصطنعة التى اظهرتها …ظل الرجل صامتاً للحظات شعرتها ساعات وكلما اتسعت مساحة الصمت كلما زاد ارتباكى بعدما سقطت ثقتى بنفسى فى جب عميق.

بدأ الرجل الكلام واتجه رأساً نحو الموضوع الذى اتيت اليه من اجله، فانا الذى اتصلت به طالباً مشورته وانا فى مقتبل حياتى العملية فى مجال ادارة الاعمال ليفيدنى من علمه وخبرته فى هذا المجال. انتبه الرجل لارتباكى وعدم تركيزى وانتبه ايضاً لعيناى المتجهتان رغم ارادتى نحو القفص الخالى.

 لقد سألتنى المشورة وأتيتنى طالباً دروساً مستفادة فى مجال ادارة الأعمال” هكذا قال لى بنبرة بنبرة عالية لم اعرف سببها أجبته “هذا صحيح” قال الرجل مستطرداً ” لكنك -فيما يبدو- أردت أن يكون درسك الأول درساً فى الحياة ” لم أجد ما أرد به عليه وأنا أنظر اليه مندهشاً سألنى ” أتعتقد أنك منحت الطائر الصغير حريته؟” أجبته بسرعة ” بكل تأكيد” ابتسم الرجل فى سخرية لم أستسغها ثم ثبت عينيه فوق كتفى نحو النافذة وخرجت كلماته هادئة متباطئة ” اذاً عليك بالنظر خلفك فى هدوء”…..

التفت خلفى -كما أمرنى- فى هدوء….وهالنى أن أرى الطائر الصغير يقف على حافة النافذة محركاً رأسه فى كل الاتجاهات – وكأنه يستأذن فى الدخول الى الغرفة – ثم طار الى الداخل محلقاً لدورة واحدة بعدها هبط مستقراً على حافة باب القفص المفتوح ثم قفز للداخل ملتقطاً بعض الحبوب الملقاة فى أرضية القفص..

وتوقعت أن يخرج من القفص مرة أخرى لكنه لم يفعل!!!!!! اتسعت عيناى فى دهشة بينما ارتفعت ضحكات محدثى وهو يقول “لو أنه يملك يدين لأغلق القفص بارادته” قالها وهو يغلق القفص على الطائر. أصابنى الوجوم…..شعرت بالهزيمة….وضع الرجل يده على كتفى وقال ” قبل أن تتكلم عن الحرية عليك أن تسأل نقسك – يا مانح الحرية للضعفاء- كيف يجد الطائر الصغير طعامه فى الخارج وسط الجوارح……

لقد خُلق ليعيش فى حدود ذلك القفص لا ليتصارع مع الأقوياء” قلت له مبرراً ” لكن الحرية هى الحرية فى كل مكان ولكل الكائنات” قاطعنى فى حسم ” للحرية مقاييس ترتبط بالقدرات وهى عند الانسان تختلف عن الكائنات الأخرى، فالانسان مثلاً يضع حدوداً لحرية الكائنات التى تعيش حوله حتى الطليق منها.

” قلت مضيفاُ ” والانسان أيضاً يضع حدوداً لحرية انسان آخر” رد فى جدية تامة ” هنا تبرز القدرات….على الانسان أن يضع حدوداً مناسبة لنفسه ولا يدخل فى صراعات لا طاقة له بها….يا عزيزى لا تطلب من شاعر أن يعزف لحناً شجياً ولا تسأل طبيب ان يرسم لوحة زيتية.

وللمرة الثانية فى خلال دقائق اشعر بالهزيمة لكننى ايضاً لم اشعر بالاحباط فقد شعرت ان الكثير من الشعارات والعبارات البراقة قد لا تكون مناسبة للتطبيق فى بعض الاوقات او بعض المواقف او ان تكون غير متناسبة مع من يطبقها…وخلصت انه لا يوجد فى الحياة شىء مطلق فكل الامور نسبية. .” ابتسمت وأنا أنهض لأهم بالخروج…..فقال الرجل مندهشاً….”هل ستذهب ولم نبدأ درسنا الأول بعد؟

” قلت فى امتنان ” لكنك علمتنى الدرس الأول فى الحياة بل وقد يكون الدرس الاهم فى حياتى….وعلى الآن أن أطبقه. سألنى ضاحكاً …وكيف ستطبق الدرس الاول الذى تعلمته؟ اجبته بسرعة….بان ابحث عن قفص يناسبنى.”

شاهد أيضاً

جورج البهجوري بنكهة وطن !!

بقلم عبدالواحد محمد روائي عربي فنان تشكيلي كبير عاصر كل نجوم الثقافة العربية محيطا وخليجا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.