بقلم / مايكل عزيز البشموري
« قصة مُقتبسة من الأدب الروسي »
الجزء الأول : يسوع فى المدينة
فى إحدى شوارع مدينة دمياط ، خرج « يسوع » بكامل صورته وبهاءه ليتمشي فى الطريق ويخترق حشود الناس ، وسرعان ما عرفه جميع مَن بالطريق ، ففرح الشعب فرحاً عظيماً ، وإنجذبوا إليه بقوة لا تقاوم ، فأحاطوا به ، وإحتشدوا حوله ، وتابعوا خطواته بشغف ، فسار هو بين الجمهور صامتاً ، وهو يبتسم إبتسامة عطف لا نهاية لها ، إن شمس المحبة تتقد في قلبه
ومن عينيه يشع الضياء وتشع القوة فينتشران فى المؤمنين ويشعلان المحبة فيهم ، وهو يمد ذراعيه نحو الشعب ليباركهم ، إن ملامسته ، وحتى ملامسة ثيابه ، تملك القدرة على إبراء المرضي ، فكان هناك شيخ أعمى ولا يبصر منذ طفولته ، هتف قائلاً :
« ردَّ الَّى البصر يارب حتى أستطيع أن أتأملك » فما هى إلا لحظة حتى سقطت الغشاوة عن عينيه ، فإذا هو يرى الرب ، وبكى الشعب تأثراً ، وتعالت الصيحات من كل جانب تقول فى حماسة : « إنه هو ، إنه هو ، لا يمكن إلا أن يكون سوى يسوع المخلص » .
وفى أثناء ذلك كانت تسير عدة سيارات فى موكب كبير نحو مطرانية دمياط للاقباط الارثوذكس ، إنه موكب مطران دمياط المبجل ، لقد كان ذاهباً لإجراء محاكمة ضد بعض الهراطقة وأصحاب البدع ، فسأل المطران سائقه الخاص
وعلى وجهه علامات الامتعاض بسبب توقف حركة السير : « ما الذى يحدث بالخارج ؟ » فأجاب السائق صارخاً : « المسيح نزل من السماء ويسير وسط الناس! » ..
إنزعج المطران وأمر موكبه الفخم بالتوقف فى الحال ، فخرج من سيارته برفقة حرسه وخدامه ، ثم أقترب وسط الحشود .. وقف المطران يتأمل المسيح من بعيد ، لقد رأى كل شئ ، رأى يسوع يشفى الناس ، ويقيم الموتى ،
ويعزي المجروحين والمتآلمين ، فأظلم وجه المطران وأخذ يقطب حاجبيه بغيظ ، وان بريقاً متوحشاً كاسراً
يومض في عينيه ، فرفع يديه وهو يشير إلى المسيح بسبابته آمراً مرافقيه وحرسه الخاص بأن يعتقلوه ، فتوقف الشعب عن الصياح وشعر الكثيرون بالارتباك .. إن المطران المعظم يأمر بالقبض على « يسوع المخلص »
فخيّم الصمت على الجميع فجأة ، وجاء الحرس ووضعوا أيديهم على المسيح ليقتادونه إلى السجن ، فسجد جمهور
الشعب الغفير بحركة واحدة أمام المطران العظيم ، معلنين له عن خضوعهم ومحبتهم له ، فباركهم صامتاً ثم ركب سيارته مجدداً قائلاً لسائق عربته : « إذهب بِنَا نحو السجن ، لنحقق مع يسوع الناصرى » !
* الجزء الثاني : « لماذا جئت إلى هنا ؟ »
إقتاد حرس المطران يسوع داخل السجن وتم إحتجازه فى حجرة مظلمة خاصة للتحقيق
جلس يسوع وحيداً صامتاً مترقباً وصول صاحب النيافة لبدء التحقيق معه .. فجأة وبعد ساعات من الانتظار أضيئت الأنوار داخل الحجرة
فدخل رجُلاً سبعيني يرتدي جلبابا أسود حريري وفى منتصف صدره يتدلى صليبً من الذهب الخالص ، ويعتمر على رأسه عِمامةً سوداء لامعه ، نظر المطران ليسوع نظرة مليئة بالاستهجان قائلاً : أهذا أنت إذن المسيح ؟
– يسوع : أنت تقول .
– لا تقل شيئا .. أنني أعرف سلفاً كل ما قد تقوله لي ، ولكن بأي حق تريد أن تضيف شيئاً رغم ما قلته من تعاليم بإنجيلك ؟ ، لماذا تجئ اليوم وتزرع الاضطراب في حياتنا مثلما زرعته في الماضي مع كهنة اليهود ؟
هل تعلم ما الذي سوف يحدث لك غداً ؟ سوف أحكم عليك بالاعدام صلباً وسآمر بحرقك مثلما آمر
بإحراق الهراطقة في كل عيد ، ولكن هل تعلم ؟ لن أصلبك معهم غداً ، سوف أصلبك يوم عيدك الكبير
وإن ذلك الشعب الذي كان يُقبل قدميك منذ بضع ساعات ، سيُهرع بإشارة بسيطة من يدي المباركة ، فيقوم بشتمك وصلبك فى الحال .. هل تعلم ذلك ؟
ألقي المطران هذا السؤال ثم أضاف يقول شارد الذهن نافذ النظرة دون أن يحَّول بصره عن سجينه لحظة واحدة :
– لا شك أنك تعلم ذلك .
لم يتحدث يسوع قط وإجاباته كانت قصيرة ، وأكتفي بإبتسامته الرقيقة المعهودة التى كان يلقيها على المطران ..
نظراته كانت حانية تترسم عليها مشاعر المحبة والحزن في آن واحد .. إستهل المطران حديثه لسجينه الجالس
علي المقعد الخشبي أمام الطاولة التى كان يجلس عليها أيضاً بالطرف المقابل ، فقال بحزم :
” أيها المخلص لقد عاهدت برسالتك إلينا نحن الكهنة ، الذي لولانا لما رأئيت « الأقباط » خاضعين لمشيئتك
وقد عهدت برسالتك السماوية إلى قداسة البابا « ذهبي الفم .. كلى القداسة والطوباوية »
ومن إختصاص البابا أن يقرر متى تأتى أم لا ؟ ، فلا تأت إلينا لبث القلق والاضطراب في حياتنا بغير طائل ، لا تأت الان ، لا تأت قبل الساعة المُحددة علي كل حال ! “
يسوع : ما السبب فى رفضكم مجيئي ؟
المطران بحزم : الحرية !
يسوع متعجباً : الحرية ؟!
المطران : نعم .. لا نريد للشعب الحرية … ألم تكن تردد فى مسامع الشعب فى زمانك بغير كلل ولا ملل
عن الحرية قائلاً : « لقد جئتكم بالحرية » ؟ .. إن تلك الحرية مثلت خطورة بالماضي وقد كلفتنا الكثير والكثير
ولكننا أتممنا عملنا أخيراً بإسمك ، فمن خلال الحرية الممنوحة إلينا حكمنا الشعب بإسمك طيلة عهوداً عديدة
لانهم تنازلوا إلينا وعن طيب خاطر بالحرية التى منحتها لهم .. أنا أرى انك تنظر إلىَّ بوداعة ولين ورفق الان ، فلا شك أنك تريد ان تظهر لى إستياءك ، ولكن إعلم يا مخلصى الصالح
أن الاقباط اليوم أشد إقتناعاً فى أي وقت مضى بسلطتنا الكاملة عليهم ، لان غالبيتهم على قناعة تامة
بأن حريتهم التى منحوها لنا قد وضعوها فى أيدينا بكثير من المذلة ! وذلك هو عملنا الان
لانك حين بارحت هذة الارض عهدت إلينا بمهمة إتمام رسالتك
لقد كلفتنا بأن نوجه الانسانية وأن نرشدها .. لقد بذلت لنا وعدك ، وأقمت سلطتنا على كلمتك ..السلطة التى من خلالها نسيطر بها على الشعب عبر فرض كلمتك ووصاياك عليهم وتنفيذها حرفياً كما ورد بالكتاب
وكل َمن يخالف الناموس الذي وضعناه نحن حسب مشيئتنا يستوجب حينها المحاكمة إعمالاً بمبدأ العقد والحل الذى منحنته لنا إياه « اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ. ” مت 18: 18 ، ولن تستطع طبعاً أن تنتزع منا هذا الحق بعد الان ، فلماذا جئت تعرقل عملنا فى هذا العالم ؟
– يسوع : « لقد أَتَـيْتُ لِتَكونَ لَهُم حياةُُ ولِيَكُونَ لَهُمْ أَفضَل » لكى يحيا شعبي فى فرح دائم وليس لسلب حريتهم وتقييد مستقبلهم .
– المطران بإستغراب : حياة أفضل وفرح دائم ؟!
ألا تعلم يا مخلصي الصالح بأن الانسان محمول بطبيعته على العصيان والتمرد ، ولكن هل يستطيع المتمردون أن يكونوا سعداء ؟
– يسوع : نعم .. بالتأكيد .
– المطران : أياً من المتمردين تقصد ؟
– يسوع : الغيورين على قدسية كنيستى ، الذين يحملون سوطى ويطردون باعة الحمام من هيكلي !
– المطران غاضباً : أنتا بذلك تدعو الشعب للتمرد علينا ، وهذا ما يتعارض كلياً مع السر الذي وضعناه !
– يسوع : ما هذا السر ؟!
المطران : سأقول لك !
للحديث بقية