الإثنين , ديسمبر 23 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

شموع فوق جدار الحقيقة

مدحت موريس

سار يتحسس خطواته فى ذلك الظلام الدامس الذى لم يألفه من قبل، هو لا يعرف ما حدث ولا يستطيع أن يدرك معنى لهذا الظلام الذى هبط فجأة وساد الكون بعدما إختفى القمر وخبت النجوم، أما عن الشمس فلم يفكر أن يسأل عنها فهو لم يبصر نهاراً منذ زمن. أخذ فى تأمل الناس من حوله، كثيرون منهم يسيرون فى حياتهم بصورة طبيعية وكأنه ما من ظلام يحتل العالم، وكثيرون أيضاً يسيرون حاملين شموعاً تنير لهم الطريق…أما هو ففريد فى وضعه فهو يرى الظلام ويعيش فيه ولا يملك شمعة ترشده .

إقترب من أحد حاملى الشموع وسأله عن سر ظلمة الكون وعن سر هؤلاء الذين يعيشون حياتهم فى إعتياد وأريحية وكأنهم لا يرون ظلاماً حولهم !!! أجابه الرجل فى بساطة وكأنه يشرح أمراً بديهياً إن حاملى الشموع هم من أدركوا حقيقة ظلام العالم الذى يعيشونه، أما الآخرون فهم من لم يدركوا بعد…..يعيشون فى الظلام وهم لا يدركون أنه ظلام وقد تكون أعينهم قد إعتادت الظلام…و- مع هذا – فهم كثيراً ما يتخبطون ويتصادمون……يتألمون ويؤلمون ثم بمرور الوقت تتبلد مشاعرهم بل ويزداد إنتمائهم لعالم الظلام. عاود سؤال الرجل وقد إزداد شوقه لمعرفة حقيقة ما يحدث حوله…ولكن ماذا عن حاملى الشموع –

وأنت واحد منهم – كيف ولماذا أدركتم ورأيتم أن هناك ظلام يحيط بالكون؟ أجابه الرجل ” عرفنا ظلام الكون ورأيناه وأدركناه يوم بدأنا نفكر ونبحث عن الحقيقة….الحقيقة التى ترشدنا وتصير لنا النور الحقيقى فى هذا العالم المظلم ولا عجب فى أن نستعين بالشموع حتى نبلغ طريق الحقيقة ونصل إليها.

” صمت بُرهة سارحاً فيما سمعه من الرجل وقد تأكد أن حاله مثل حال هؤلاء حينما إكتشف تفاهة عالمه وزيفه وبدأ وقتها يبحث عن الحقيقة وهو يرى الظلام يحيط به من كل جانب، أفاقه من شروده نور شمعة ناولها له الرجل الغريب، أمسك بها وهو يسأل الرجل ” وأين أجد طريق الحقيقة؟” ترامت كلمات الرجل على مسامعه وهو يبتعد ” عليك باجتياز كل الطرق التى تصادفك فى أحد الاتجاهات الأربع

إلى عالم الحقيقة !!!! فلا أحد يعلم على وجه اليقين طريق الحقيقة وما علينا الا البحث والاجتهاد حتى نصل إليه.” مضى فى طريقه وقد تسرب إليه اليأس بل وكاد الندم أن يسيطر عليه فى أنه قرر البحث عن الحقيقة….لكنه قاوم كل هذا ومضى يشق طريقه وهو يعد خطواته ويخشى أن تتضاعف إذا ما ثبت أنه يمضى فى الطريق الخطأ، يطول الطريق ويضيق…يزداد وعورة…آلمته قدماه حتى شعر أنه يسير حافياً، إلتهبت أصابع يديه ودموع الشمعة تنهمر عليها غزيرة، ثم….

توقف المسكين أمام جدار ضخم حال بينه وبين إكمال مسيرته، وتيقن أن هذا الجدار ما هو الا نهاية الطريق. إستند على الجدار يلتقط أنفاسه..خاب أمله …أراد أن يبكى لكنه رفع الشمعة لأعلى وتظر فوجد أن الجدار يمتد إلى أبعد من مرمى إبصاره ثم امعن النظر لأعلى فوجد ان السور شاهق الارتفاع. جلس فى مكانه قليلاً بعدما اعياه الفكر والتعب آملاً أن يستعيد قوته وتركيزه،بعدها نهض وقد قرر أن يسير بمحازاة الجدار والأمل يداخله أن يجد باباً أو منفذاً يخرج منه إلى الجانب الآخر من الجدار.

طالت مسيرته بعدما ضاقت خطواته جراء تعبه وإجهاده لكنه إستمر فى البحث عن الباب السحرى الذى سيطل منه على عالم الحقيقة….هذا إذا كان الجدار هو بالفعل الحد الفاصل بين عالم الظلام وعالم الحقيقة!!!.

تراكمت أيام المسير لتستحيل شهوراً أصابته بالإعياء وهو يسير بمحازاة الجدار، لكنه أدرك حقيقة هامة وهى أن الجدار يمتد على طول الجهات الأربع….وكل الطرق تؤدى إليه !!!!! هو إذاً فى الطريق الصحيح. زاده هذا الاستنتاج ثقة وإصراراً على إجتياز الجدار والعبور إلى عالم الحقيقة…

عالم النور، نظر لأعلى مجدداً فتأكد من إرتفاع الجدار الشاهق…لكنه هذه المرة أبصر شيئاً لم يلحظه من قبل…فهناك أضواء فوق الجدار…. نعم هناك أنوار تتراقص فوق الجدار لم يتبين مصدرها اولاً…لكنه وبعد قليل من الوقت ادرك ان تلك الاضواء هى اضواء لشموع مُتراصة فوق الجدار!!!!!.هو لا يستطيع أن يحطم الجدار ولا يقدر أن يخترقه فهل من وسيلة لتسلقه؟ هكذا تساءل وهو يحاول أن يثبت قدمه لعدة مرات فى أى جزء من الجدار الأملس فتنزلق قدمه فى كل مرة، رفع إحدى يديه –

وهو لا يزال ممسكاً بالشمعة فى اليد الأخرى- محاولاً التشبث بالجدار وبدأ يدفع جسده لأعلى …فعل ذلك أكثر من مرة وكان الفشل حليفه أيضاً فى كل مرة. أصر على محاولاته فى تسلق الجدار وكأن الفشل قد منحه عزماً وثقة فى قدرته على تسلقه وعبوره..

حتى شعر فجأة -وهو يدفع جسده لأعلى- وكأن يدين تحملانه من إبطيه…لأعلى الجدار. وهناك فوق الجدار جلس وفد أغمض عينيه التى عاشت وعانت الظلام، فتح عينيه فى بطء وهو يواجه نوراً باهراُ إفتقده فترة من الزمن، جلس فوق الجدار يطالع عالم الحقيقة الذى ظل يراوده لفترة حسبها طويلة واليمة….أبصر نهاراُ دائماً يمتد إلى ما لا نهاية…أبصر شعوراً يملأ كيانه…شعور لم يألفه من قبل. فى هدوء وضع شمعته فوق الجدار فلم يعد بحاجة إليها، ثم قفز فى سهولة منطلقاً إلى عالم النور بخطوات واسعة شعر معها أن قدميه لا تلمسان الأرض ثم التفت إلى الخلف ليودع عالم الظلام لكن نظراته إصطدمت بالجدار الذى صار عازلاً بينه وبين عالمه القديم. نظر لأعلى الجدار فرأى شمعته وقد إستقرت بجوار تلك الشموع التى تركها كل الذين عبروا قبله من عالم الظلام إلى عالم النور.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.