الثلاثاء , نوفمبر 12 2024
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود

حنانيك أيها المطر .

ونحن صغار كنا نتسابق عندما نري السحب وقد أصبحت حٌبلي بالأمطار، نرقبها ونتابعها ونجري خلفها حتي تداعبنا بحركتها، مرة على عجل وأخرى على مهل، وكأنها تدير معنا حوارات اللهو والتمني، كانت أيادينا تتطاير تختطفها، وتتمني عليها ألا تنزل على الأرض، نسعد عندما تبتل شعورنا، ونمرح وملابسنا علاها الماء، نقفز بكل قوانا كي نمسك بها بجوار السماء، تتعلق أعيننا بها، ودعواتنا تلهث ألا يحرمنا الله من هكذا شعور، وألا يحرمنا من والدينا، وأن يرضي عنا من نحب من معلمينا، وألا تحرمني معلمتي من كلمات التشجيع والحنو التي كانت كل أمانينا، وأن ننتصر في مبارياتنا التي نجريها.
واليوم وقد كبرنا وكبرت همومنا، وتعلمنا في قاعات الدرس أن تلك السحب طالها التلوث، وامتلأت بكل مخلفات البشر الذين سطروا كل صنوف القسوة حتي على الطبيعة التي خلقت مسخرة لخدمتهم، وجعل حياتهم هانئة.
كبرنا وعلمنا أن تلك الأمطار تجلب معها بعض الخسائر؛ لأنها أصبحت قاسية كقسوة قلوبنا، فمعها تزهق الأرواح، وتدمر الطرقات، وتقتلع البيوت من جذورها، حتي الحيوان لم يسلم من قسوتها.

كبرنا وعلمنا أن لنا أخوة قد افترشوا الأرض، والتحفوا السماء، وعيونهم الحزينة المملوءة بالعجز، المفعمة بالقهر، شاخصة إلى السماء، تناجي تلك السحب أن ترحمها، وتتنمني عليها أن تبتعد قليلا، وتفرغ حمولتها على جبال قريبة، أو تنزلها صاعقة فوق رؤوس من قذوفهم في العراء، من أبعدوهم خارج ديارهم، من انتزعوهم من منازلهم، من حطموا تلك المدفأة المختبئة في ردهة المنزل، من سلبوا منهم الأمن والأمان.
نعم يا سحابتي المحملة بتلك الزخات القاسية حنانيكي فقد خارت قوانا، لم نعد نتحمل تلك العطايا القاسية التي تخترق الأجساد، وتضيف لنا من الآلام ما لا تتحمله الجبال، حنانيكي فقد غابت أمي التي كانت تضمني إلى صدرها خشية أن يصيبني البرد، وسرعان ما تبدل ملابسي، وتجفف رأسي، وتعطيني من الحلوى ما يهدئ من رجفة قلبي، حنانيكي سحابتي فأبي الذي كان ينادي لا تتمادي، تمهل قليلا، لا تتعب نفسك يا بني، قد رحل هو أيضا على أيدي تلك القلوب القاسية التي أبت إلا أن تغتال كل مصدر قوتي في الكون، حنانيكي يا سحابتي القاسية، فلم يعد هناك معلم أتمني رضاه فقد مات يوم قذفت مدرستي على رأسه، حنانيكي فمعلمتي التي كنت أتمني نظرة رضا من عنينيها قد اختفت خلف الركام، حنانيكي فأنا لم أعد أنا، فاليوم لم تعد دعواتي أن أكون طيارا، أو أتزوج من حبيبتي التي ألعب معها في فسحة مدرستي الابتدائية، لم تعد دعوتي أن أحصل مع مدرستي على كأس أوائل الطلاب، لم تعد تلك هي الأماني، أصبحت دعوتي أن أعيش. فقط أعيش. حتي لو استسلمت لتلك الصرخات المدوية التي تصاحب ما تحملين من زخات، فلم يعد لي حيلة إلا الصبر، لأنني وحيد، فقد رحل الجميع، وتركوني أنا وأنتي فحنانيكي.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط

شاهد أيضاً

نعم للتنوير

بقلم مينا عماد من المحتمل ان نشهد في الأيام القادمة توسع ، وتغيير لكثير من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.