في هذه الأيام تقترب ساعات الاختبارات لملايين الطلاب في كل مراحل التعليم، في كل ربوع وطننا العربي الكبير، ومع هذا الاقتراب تتحول البيوت إلى ساحات، معارك نفسية، يتقاذف فيها الجميع سهام الضغوط والألم، وربما القهر، وتصبح تلك الأيام في عداد أيام المحن والبلايا، وربما أسهمنا عن قصد، أو بدون قصد في قتل العديد من المزايا التي وضعت لها هكذا اختبارات، بل وضعناها في طور المستحيلات، فمن المفترض أن يفرح الطالب بقدوم هذه الأيام، كما يفرح الزارع باقتراف قطف ثماره، وكما يفرح الصانع برؤية كامل إنتاجه، وكما يفرح التاجر بربح تجارته، أما وقد بارت أرضنا العلمية، وتعطلت ماكيناتنا المعرفية، وكسدت بضاعتنا العقلية، فقد تحولت تلك الأيام الي ساحات من الصراخ المتواصل، والشد المتبادل، وتحول الأبناء إلي مخازن؛ لتكديس بعض المعارف البالية، التي تستدعي في ساعات العسرة، على أرصفة الممتحنين، في قاعات مكدسة بالأجساد المنهكة فكرياً ونفسياً واجتماعياً، فالجميع يتمني الخلاص على عجل من تلك البضاعة فالطالب وكأنه يحمل أوزار، وأولياء الأمور يتمنون خلاصا، ومعلمون قد زكمت أنوفهم من هكذا بضاعة.
نعم فقد تحول الفكاك، والذهاب إلى الإجازات طوق حياه ينتظروه الأبناء؛ لينتشلهم من أمواج الكتاب العقيمة، وصراع المعرفة البالية، واختناق المدرسة الرتيبة، ونظرات المعلم المنهك، وضغوط أولياء الأمور المحملة بكل الآمال والآلام.
وهؤلاء الطلاب ومع كل هذا يخرجون من تلك الأيام راغبين أو مرغمين صفر اليدين – إلا من رحم ربي- فيذهبون إلي النوادي، أو تتلاقهم أرصفة الشوارع، أو تستعد لهم مقاهي الألعاب الالكترونية، والمواقع الغاية في الحنو والإنسانية، والضاربة بعنف في جذور العاطفية، وهم لا يحملون سلاحا من قيم المقاومة لتلك الساحات، ولا يملكون زادا من المعرفة النافعة للتعامل مع كل تلك المغريات؛ فيصلون إلي الحد الذي يتمني فيه الكثير من أولياء الأمور لو لم يتعلم هؤلاء، وتفرغوا لاكتساب القيم والأخلاق، فلا الطلاب في غالبيتهم نهلوا من المعارف ما رسخ في بنيتهم المعرفية وصارت أثاره باقية؛ تبلغهم وتبلغ بهم ساحات التخصص النافع، وما تَرَكُوا لينالوا من القيم والأخلاق ما يجعلهم راسخين في أرض تموج بأسباب الانحراف، والانحلال، والتسيب في كل مكان.
نعم في هذه الأيام العصيبة للجميع وعلى الجميع، وحتي لا يفلت منا الزمام، أتمني علي الجميع علي من طلاب، ومعلمين، وأولياء الأمور، ووسائل إعلام، وكل المهتمين أن يجتهدوا لتوضع الاختبارات في مكانها الصحيح، فهي وضعت لقياس ما لدى الطلاب من إمكانات؛ ولتقومه، وترعاه، فهو إن أحسن زادته إحسانا من التقدير، ومن رفع لإمكاناته، وقدراته، وثقل لمهاراته، وإن بدا عليه بعض الخلل سارعت؛ لسد الخلل؛ وجبر الضرر؛ ومد يد العون حتي ينطلق بكامل طاقته، يحصل كأقرانه السابقين، فلا يتأخر عنهم، ولا يتخلف عن ركب معرفتهم، ونحن على هكذا حال أعيننا جمعيا مسلطة على مستقبل هؤلاء؛ حتي يخرجوا في ساحات المعارف، وتنمية الاتجاهات، وإثراء المهارات، وقد أخذوا بطرف خيط في سوق عمل يموج بالمتغيرات، ويطيح بمن فيه يوميا بثورات من الاختراعات، تزيح تلك الجيوش الهادرة من الخريجين؛ لتحل محلها الآلات.
وأخيرا فإن أمة تتحول أيام الحصاد، وساعات الربح فيها إلي أوقات أشبه بتشيع الجنائز، والتسرية في المصائب، هي أمه تحتاج إلي إعادة صياغة لمصانع العقول، وخطوط إنتاج المهارات، وتحتاج إلى جهد مضاعف لزراعة المعارف النافعة، و القيم الراسخة، والمهارات الضاربة بقوة، وتمكن في سوق العمل الملتهبة، لتحصد ثمارها السليمة والناضجة النابتة في تربة خالية من قهر الاختبارات.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط