بقلم محمد سعيد أبوالنصر
إذا جاز لنا أن نتسائل؛ هل غير الرسول بدعوته العالم ،وهل أحدث هذا التغير انقلابًا في المعايير والمفاهيم ؟ هذا ما بدأنا شرحه وقلنا إنَّ منهج النبي في التغير اعتمد على عدة خصائص :
1- الشمول والتنوع: فهو منهج شامل وكامل.
2- الفورية فهو يعالج الحدث في حينه
3- المعيارية: فما هو المعيار الذي يُحكم به على الأشياء ،ومَنْ الذي يضع هذا المعيار ؟
لو تُركت المعايير لأهواء البشر لوضع كل واحد منا قانونًا ومعيارًا يتماشى مع مصلحته ،ولذا فإذا وضع الخالق العظيم معيارًا للقوانين فهو أفضل المعايير وأحسنها ” وهذا المعيار “يحدد ما يجب أنْ يكون وما يجب ألا يكون”
( ) والتفويض لله في وضع المعايير يكون “بحُكم كونه سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو الرزَّاق ذو القوَّة المتين، وهو الحكيمُ العليم، وهو الغني، وهو اللطيف الخبير… إلى آخِر ما يتفرَّد به الله مِن الصِّفات”( )
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر}ُ [الأعراف: 54]، وحين يكون التشريع حقًّا خالصًا لله فإنَّه لن يكونَ هناك مصلحةٌ لمجموعة مِن البشر على حسابِ مجموعة أخرى في هذا التشريع، ولن يشوبَه عيوبُ الجهل والهوى كما تشوب هذه العيوبُ كلَّ تشريع بشريٍّ؛ لأنّ الإنسان حين يضَع منهجًا لحياته منفردًا دون استرشاد بوحيٍ ربَّاني، فإنَّه يخطأ ولا يُدرك كلَّ الجوانب الجزئية التي تصلح هذا المنهج
وربما مال في صناعة المنهج لرغباته أو لمصالحه ، مهما زعَم مِن نزاهة وعدَالة! إن الرضا بمعيارية التشريع وبأحكام الخالق سبحانه تجعل للأمة هوية مستقلة فلا تشترك مع غيرِها من الهويَّات ، فتتوحَّد وجهتها ويتعزَّز انتماؤها، والهويَّة الإسلاميَّة هي الأداة التي حفِظتِ الأمَّة من الاغتراب الشامل لقرون طويلة
وهو الأمر الذي عجزت عنه المعايير الأخرى كمعيار المذهبية أو الطائفية أو القومية الذي حملته بعض البلدان العربية أداة من أدوات حكمها فترة من الزمان وكانت النهاية أسيفة ،فلاهي حققت نهضة في الدنيا
ولا فوزًا في الآخرة ، بل رأينا الأمة تُعاني من حالة الاغتراب عن دينها ،وتشتكي من الفراغ الديني الذي أنتج الهزيمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بسبب خراب الذمم وموت الضمائر
حتى أتت اللحظة التي رأينا فيها المسلمين يصارعون بعضهم بعضًا كالثيران أو كالخراف الضالة ، كل هذا لتعدد المعايير واختلاف المفاهيم والمصطلحات ،ولنضرب على ما قلناه عدة أمثلة توضح هذا التنظير ، إذا أراد الانسان أنْ يُعرِّف ما هو المسلم ؟أو ما هو المهاجر؟ ،أو ما هي العصبية ؟
أو ما هو النفاق؟ أو أي مصطلح من المصطلحات ، فكل إنسان سوف يضع تعريفًا لهذه المصطلحات لكنَّ الشرع الشريف والرسول الكريم عرف هذه المصطلحات ووضع لها معيارًا معينًا فقال صلى الله عليه وسلم عن المسلم “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي اﷲ عنه” ( )
وعرف العصبية ووضع لها معيارًا فقال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العصبية فيما رواه وائلة قلت يا رسول اﷲ ما العصـبية قـال: “أن تعين قومك على الظلم” ( ) وهذا عندما يتبجح الانسان ويعين قومه على ظلم الخلق ،وهو سلوك معوج قوَّمه صلى الله عليه وسلم بوضع معيار للعصبية
ولما كان النفاق من أخطر الأمراض الاجتماعية، بادر صلى الله عليه وسلم إلى توضيح علاماته ليكون معيارًا يُقـاس عليه ،جاء في السنة النبوية “آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان” ( )
وفي الحياة الاجتماعية قد يَنْظر الناس إلى الإنسان باعتباره جُثه كلما زاد حجمها زادت قيمتها ،فإذا كان مفتول العضلات، طويل القامة ، حسن الشكل ، جميل المنظر ،تعاملوا معه أفضل ما يكون حتى وإن كان عقله كعقل العصفور ،أما إن كان غير ذلك رموه من أعينهم ، فغير الرسول هذا الفكر
وقوَّم هذا المعيار ،وأخبر بأنَّ النظرة للإنسان ينبغي أنْ تكون مِن خلال ما يحمل مِن عقائد ومبادئ “فحينما سخر نفر من الصحابة رضوان اﷲ عليهم من ابن مسعود، ردهم صلى الله عليه وسلم إلى موازين اﷲ سـبحانه وتعالى في خلقه مستهجنًا سلوكهم، روى زر بن حبيش عـن ابـن مسعود، أنه كان يجتنى سواكًا من الأراك وكان رقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه فضحك القـوم منه، فقال رسول اﷲ”مم تضحكون
قالوا : يا نبي اﷲ من رقة ساقيه فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد” ( ) فالحديث السابق يؤكد أنَّ قيمة الشخصية فـي جوهرها ومحتواها لا في شكلها الخارجي، ويؤكد هذا المعيـار قولـه صلى الله عليه وسلم “إن اﷲ لا ينظـر إلـى أجسامكم ولا إلى صوركم وأموالكم ولكن إنمـا ينظـر إلـى أعمـالكم وقلـوبكم”( )
وللحديث بقية