مباراة برشلونة وريال مدريد بدت وكأن الأرض دخلت في ٩٠ دقيقة من الصمت، علي غرار تلك الدقيقة التي كانت في بداية المباراة حدادا علي ضحايا الفريق البرازيلي. كل العالم يتحدث، وكل الشاشات بدأت تتزين، والإحصائيات تخبرنا بأن مئات الملايين من البشر تحلقوا حول الشاشات، يرقبون أرقي فنون الرياضة، وأغلي فرق العالم، المباراة لمحبي كرة القدم جديرة بالمشاهدة، وحري أن تتابع، وإن كانت المباراة جاءت دون المتوقع إلا أن الملاحظات علي تلك المباراة أثارت لدي بعض الاهتمام.
ومن تلك الملاحظات: الكلمات لشركات عربية علي صدور فريقي برشلونة وريال مدريد، إعلان لشركات الطيران القطرية والإماراتية هذا الإعلان تكلف قرابة مليار ونصف من الجنيهات في العام الواحد للشركة القطرية، بينما دفع طيران الإمارات حوالي نصف هذا المبلغ، وبلغة البزنس، وبلسان أهل الدعاية والإعلان، وبمهارة الشغوفين بالكلفة والعائد، سوف تجد حماسة من أصحاب هذا الفريق، ولكن وبلغة الإنسانية، وبلغة الفقراء، وبلسان حال المساكين، وبخاطر مئات الملايين الذين يعانون من الجوع، ويموتون عطشا، ويقتلون بسهام البرد القارس، ويلتهمهم العراء، وهم في أحصان الثلوج علي حافة المخيمات الهشة الخالية من كل صنوف الرحمة، وهؤلاء في غالبيتهم الكاسحة هم من ذوي الأرحام، ولهم لغتنا ومن ديننا، فضلا عن أنهم شركاء في الإنسانية، هؤلاء لسان حالهم يلهث بالدعوات أن يهلك أولئك الذين كانوا علي خزائن ملكهم فبعثروها في غير حق، ودفعوا بها في هكذا لهو، وباعوا مقدراتهم من أجل حصاد فاسد، وهو أن يذكر اسمهم في العالمين، وما أوهنه من حصاد.
أما الملاحظة الثانية، وهي الأشد مرارة فذلك الجيل الهش من الشباب الذي لوث وجهه بأعلام الفريقين، واصطف من الظهيرة في مقاهي المحروسة؛ لمشاهدة المباراة، وأعد العدة من دفوف ومزمار، ودفع الرهان، وتشابكت الأيادي بالعراك، وتلوثت الألسن بالشتائم كل يدافع عن فريقه، يلهث خلف شرك وقع فيه من التغريب، وفقدان الهوية مدفوع بماكينة إعلامية جبارة وقاسية، كرست كل جهدها لإخراج هذا الجيل من حيز الوعي، والدفع به إلي ميدان اللهو والعبث.
تري هؤلاء المظلومين من هذا الحيل يتحدث معك بمهارة عن كل اللاعبين، والمدربين، والحكام يسطرون تاريخهم، ويعرفون دقيق أخبارهم، وهؤلاء هم هم من لو سألتهم عن الصحابة ما عرفوهم، وعن الأبطال ما سمعوا عنهم، وعن الذين قدموا حياتهم لوطنهم في سبيل نصرته كان الرد بذات السطحية التي يعيشون فيها اليوم.
ما هكذا تبني الأمم، وما هذا ينبغي أن يترك الشباب نهبا لإعلام يتلاعب به كيف يشاء، فهناك فرق شاسع بين الانفتاح علي الأمم وبين الاختطاف، وهناك فرق بين الانفتاح على الثقافات وبين الغوص في التفاهات، هناك فرق كبير بين التحضر وبين التقهقر، هناك فروق لا تحصي بين أن أكون عصريا وبين أن أتُهكم علي الماضي المشرف.
لا عجب فعندما يصدر للشباب أن الأجر اليومي لميسي ورونالدو اقترب من ثلاثة ملايين من الجنيهات لكل منهما بأسعار اليوم، وبما يعادل مرتب جيش جرّار من العاملين في القطاع الحكومي، نعم لا عجب فأمه وضعت عقول خيرة أبنائها رهن الأقدام؛ حري بها أن تعاني، وحري بشبابها أن يهوي الهجرة في قوارب مثقوبة.
لا نجاة لنا إلا عندما يتحول هذا الجيل، وتعي عقولهم أن مجدي يعقوب أهم من راؤول، ويصبح فاروق الباز أعظم من زين الدين زيدان، ويصبح أحمد زويل أرقي من لويس سواريز، وعصام حجّي أعظم من لونيل ميسي.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط
الوسومأ.د/ عبدالرازق مختار محمود
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …