بقلم : مايكل عزيز البشموري
مشهد البداية :
وقف الحاضرين فى ذاك الصباح ، والأعين مترقبة عما سيحدث بعد قليل ، فجأة ، دقت أجراس الكنيسة برنينها الجذاب ، ليأتى الفرسان ساحلين شخصا بالجياد ، وفى وسط الزحام ، يأتى شاباً مسرعاً بصحبة أمه ، محاولاً مساعدتها لرؤية أبنها السجين ، الذى أستلمه حراس المعبد ليوثقونه بالحبال على عامود الإعدام ، صرخ السجين قائلا لإخيه : خذ يا يوسف أمك وإهربوا !
وأثناء ذلك إرتدى كبير الكهنة لُباسة المزين بالتاج والأرجوان ، ليحيط به الكهنة والشمامسة وحاملي الصلبان ، فدقت الطبول ، إعلانا بخروج الحبر العظيم ، ليقف أصحاب القداسة وسط الميدان ، ويفتح أحدهم منشور لينطق البيان : « حكمت محكمة التفتيش بإعدام الكاتب / جوراندو بورنو ، حرقاً حتى الموت ، بسبب كتاباته المهرطقة والمخالفة لتعاليم الديانة المسيحية ، وأخيراً ، رفع رئيس الكهنة يديه مؤذناً بالإعدام ، فتم إعدام الكاتب العظيم حرقاً حتى الممات !
كنيسة العصور الوسطي :
أستوقفني المشهد التمثيلي عالية ( من فيلم المصير : بطولة الممثل الراحل نور الشريف ، وإخراج المخرج العالمى يوسف شاهين ) ، بعدما قرأت منشور أسقف إيبارشية مغاغة ، وتماديه فى التعبير عن رائيه حول جواز تناول المرأة الحائض ، الذى وصفه بـ « البدعة »
وفى الحقيقة هذا الأسقف (مع بالغ إحترامنا له ) وغيره من الاقباط المتشددين ( أصحاب الصفحات القبطية كمثال ) يمثلون نتاج تعليم ديني بائد ، لم يعد له وجود إلا بزمن العصور الوسطى ، وهو الامر الذى يعيد بإذهاننا كيف كانت تُدار الكنيسة بتلك الحقبة المريرة ؟ فالتاريخ يذكر لنا عن إضطهاد العلماء والمُصلحين المسيحيين فى أوروبا إبان عصور الظلمة ، وذلك بدعوى حماية الايمان والعقيدة من البدع والهرطقات ، وكانت تتم محاكمة الأبرياء علانية ، على أيدى قادة الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها المتطرفين ، وهو الامر الذى نعانيه الان داخل كنيستنا القبطية
فعلى سبيل المثال :
١- تمت محاكمة العالم نيكولاس كوبرنيكس عام 1543م بتهمة البدعة ، بعد اكتشافه أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة ، وقد تعجبت الكنيسة الكاثوليكية حينها لهذا الاكتشاف وحاكمته بميزان الحقائق الإنجيلية لديها ، وقام اتباع تلك الكنيسة بإضطهاده واتهموه بالكفر والهرطقة وطلبو قتله ، بل وأحرقوا كتبه وأبحاثه ومنعوا تدريسها، ولم يكتشفوا صحة ما وصل إليه إلا بعد وفاته بسنوات وسنوات.
٢- محاكمة جاليليو : أما العالم الايطالي جاليليو فقد أثبت أن كوبرنيكس كان على حق، وأن الشمس هي مركز الكون، واكتشف أيضًا أن القمر ليس جسمًا مستويًّا، وقد تمت محاكمته وأمر « بابا روما » إحضاره بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته، للتحقيق معه بسبب تأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن في بيته (قيد الإقامة الجبرية) إلى أن يموت !
٣- وقامت الكنيسة الكاثوليكية بإعدام العالم الايطالي جوردانو برونو حرقًا في ميدان عام ، بتهمة الهرطقة لدفاعه عن تحرك الأرض، وتوقعه وجود أراضي أخرى !
٤- وقد حكمت محاكم التفتيش الكنسية بالفاتيكان على تسعين ألفًا وثلاثة وعشرين عالمًا بأحكام مختلفة في الفترة ما بين سنة 1481م إلى سنة 1499م، أي في غضون 18 سنة ، بحجة تناقض إختراعات وإكتشافات العلماء واللاهوتيين مع تعاليم الكنيسة المتعارف عليها .
كما صدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جوردانو برونو ، وإسحاق نيوتن لقوله بقانون الجاذبية، وأمرت الكنيسة بحرق كتبهم جميعاً ، وقد أحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس في غرناطة حوالى 8000 كتابًا ومخطوطًا لمخالفتها آراء الكنيسة .
وها نحن الان أمام نفس المشهد بإرهاصاته القديمة ، فكتب الآباء المستنيرين أمثال الاب متى المسكين وأبونا سيرافيم البراموسي وغيرهم من الآباء الاجلاء ، باتت ممنوعة من العرض داخل الكنيسة ، وأصبحت من المحرمات ، أضف إلى ذلك محاربة أصحاب الفكر الحداثي من قبل مليشيات وكتائب إرثوذكسية الكترونية ، عملها الرسمي عبر السوشيال ميديا ، وهدفها التحرش بالباحثين واللاهوتيين الأقباط ، وبناء على كل ذلك تم إستبدال كتب وأبحاث اللاهوتيين والدارسين بـ « معرض الكتاب القبطى » الذى تنظمه الكنيسة سنوياً وإستبداله بكتب الطبخ وقصص الاطفال وأفلام الكارتون !
مشهد النهاية : ( من فيلم المصير )
يصل ابن الخليفة القاهرة ، ليٌهَرب كتب ابن رشد الفلسفية إلى رجل علم موثوق به ، لتحُفظ الكتب فى مكان آمن ، وأثناء حفظ الكتيبات يتحدث صوت إبن رشد فيقول : « إن التأويلات الذاتية المتباينة فى الشرع الإلهى والتى تفترض صحتها دون غيرها قد مزقت الأمة ، ونحن جميعاً نتحمّل مسئولية هذا التمزق وهذا الشقاق » .
محاربة الفكر المستقل سيؤدى بنا إلى الحروب ، وهذا ما أراد إيصاله المخرج : يوسف شاهين عبر فيلمه المتميز : « المصير » ، فرسالة الفيلم مفادها : « ان الأفكار لا يمكن ردعها أو محاربتها مثل الجيوش وذلك لأن للفكر أجنحة » ، ومحاولات بعض المتشددين داخل الكنيسة القبطية إحتكار الدين لصالحهم عبر فرض وصايتهم على الايمان والعقيدة ، سيعيدنا لما قبل العصور الوسطى ، والتأويلات الذاتية فى الشرع الالهي يُقصد بها :
التفسير المنهجي والروحى لرجال الدين ( أي دين ) ، وبناءاً عليه تتخذ شروحات رجل الدين شكل التعاليم ، فيتخذ المخدومين من تلك التعاليم طريقاً روحى يسيرون على دربه سواء فى حياتهم الروحية والعامة ، ويتحول ذلك الطريق إلى نمط حياتي لا يمكن للمرء الاستغناء عنه ، وهنا يتحول رجل الدين إلى « عرابّ » ، لا يمكن أيضاً الاستغناء عنه ، لا سيما فى الأمور التى تخص الايمان والعقيدة
و تبدأ الاشكالية عندما يتمسك أتباع كل رجل دين بتعاليمه الروحية ، وإذا تعارضت بعض الاّراء بشأن إحدى التفسيرات ، لن يتم الاعتراف بأي تفسير أو شرحاً آخر للعقيدة عدا التفسير المتعارف عليه بين جماعة المؤمنين الذى نحن بصددهم ، حينها سيتفرغ كل شخص لإثبات صحة ما تسلمه من تعليمً صحيح ( كما يٌعتقد )
الأمر الذى سيدخلنا في مباحثات وصراعات لاهوتية وفلسفية لا حصر لها ، وسينتج عن ذلك إنشقاق بين أبناء الديانة الواحدة والعقيدة الواحدة ، ولعل قضية جواز تناول المرأة الحائض من عدمه ، أظهر لنا مدى الانقسام الفكرى داخل الكنيسة القبطية . نتيجة وجود تفسيرين مختلفين حول ذلك الشأن !
وبنهاية المشهد يطمئن إبن رشد بوصول كتبه إلى مصر ، فينزل من عربته ويتجول بين النيران التى تلتهم مؤلفاته ، وسط صيحات وتكبيرات الجهلاء والمتدينيين ، الفرحين بحرق كتبه ، ليتشابه العالم : إبن رشد « المسلم » بنهاية الفيلم ، مع العالم : جوردانو برونو «المسيحي» ببداية الفيلم ، فالأول حُرقت كتبه ، والثاني احترق جسديا بسبب كتاباته ، وبعد مئات السنين كّرم الفاتيكان جوردانو برونو بإقامة نصبً تذكاري تكريماً لإعماله ، وكرم العرب إبن رشد وأشادوا بأعماله … حقاً .. إن الأفكار لا يمكن ردعها أو محاربتها مثل الجيوش وذلك لأن للفكر أجنحة .. دمتاً بعافية .