ساقتني أقداري الطيبة إلي سوريا الحبيبة قبل بضع سنوات، وكانت الوجهة إلي حلب الشهباء، ومنذ أن وطأت قدماي أرض المطار، تلقفتني أيادي دافئة تقطر كرما، وعروبة، وأصالة، ورقياً، يشهد الله أنني ما وقعت عيناي علي موطن إلا والشعور يغمرني بدفء عجيب، فما شعرت إلا بأنني في بلدي، وبين أهلي.
في جامعه حلب وتحديدا في كليه الهندسة الكهربائية حيث المؤتمر الدولي للمعلوماتية الذي شرفت بتقديم بحث فيه عن التعليم الإلكتروني قضيت معظم الساعات هي هي المدرجات والقاعات ذاتها، هي العقول ذاتها التي قارعتها في مصر، وفي السعودية، وفي السودان، وفي لبنان، ومن الأردن، ومن اليمن، ومن الكويت، ومن عمان …، هي البسمة نفسها التي يعلوها الشموخ.
في قلعه حلب الشامخة، وهى إحدى أقدم وأكبر القلاع في العالم، يعود تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، حيث مرت بالعديد من الحضارات بما في ذلك الإغريق والبيزنطيين والمماليك والأيوبيين، بينما يظهر أن أغلب البناء الحالي يعود إلى الفترة الأيوبية، في هذه القلعة تشعر أنك في قلعة صلاح الدين هو الشموخ ذاته، وكذلك هو الصمود، بل هي الخضرة عينها المخترقة قسوة الصخور، وعنفوان الجبال.
في جامع حلب الكبير أو الجامع الأموي في حلب، وهو أكبر وأحد أقدم المساجد في المدينة، وهو يقع في حي (الجلوم) قرب سوق المدينة القديمة التي أدرجت على قائمة مواقع التراث العالمي لدى اليونسكو عام 1986، في الجامع يوجد ضريح النبي زكريا؛ ولهذا يطلق أهالي حلب على الجامع اسم جامع سيدنا زكريا، وعلى مقربة من الضريح كان مكاني في صلاة الجمعة، حيث تعلقت عيناي علي ذاك المنبر الضارب في جذور التاريخ، المحلق في سماء المجد، سمعت أذناي كلمات حادة من صوت شديد الوضوح مثقف، عميق الفكر، بادية منه رائحة الأزهر الشريف، وبعد الصلاة سألت لماذا كان يمسك الإمام بسيف في يده، وهو يلقي الخطبة؟ فقالوا: تلك عادة من زمن قديم، وقلت: هو رمز الرباط لاسترداد الحقوق في نفوس الشعوب.
وبعد الصلاة تجولت في سوق المدينة ما أروع تلك الرائحة المتفجرة من كل المكان خليط من البخور، والعطور، وأنفاس طاهرة من نفوس مقبلة على الحياة، حاملة جينات الإسلام الدعاية إلى السماحة في البيع والشراء، المتمثلة تبسمك في وجه أخيك صدقة، العاملة بأن المؤمن هين لين هش بش، ولم أنسى وأنا في طريقي للعودة أن أشتري الصابون والزعتر الحلبي الذي ما زلت أشم رائحته إلى اليوم.
في تلك الأيام أجريت حوارا تليفونيا فسألني المذيع كيف هي حلب؟ فقلت له علي الفور: الهواء هو الهواء، والوجوه هي الوجوه، الأحجار تخبرك بأنها الأحجار ذاتها، حتى دوران الطرقات كأنه هو، حتي تلك الكتابات على الجدران هي هي الكتابات؛ ولكن بتنسيق وجمال وهدف وراء الكلمات، فما توجهت إلي مكان وما زرت موطنا إلا ونفسي تحدثني أننا جمعيا خلقنا؛ لنكون كيانا واحدا.
واليوم وعندما تطالعنا الأخبار، وتلمح عيناي بقايا تلك الأماكن التي شعرت فيها وبها بأنني في بيتي، وقد مزقتها الحرب، والتهمتها البراميل المتفجرة، ودمرتها العربات المفخخة، وسوتها بالأرض تلك الطائرات الفاجرة، عندها يتمزق قلبي، ويتسابق الدمع قبل صوتي بأن يكتب الله لحلب الشهباء أن تعود كما أحببت بذات الهواء النقي، والوجوه الطاهرة، والنفوس الأبية، وأن يكتب لي زيارة أعاود فيها تذكير نفسي بأن وطننا واحد، وهدفنا واحد، ومصيرنا واحد. .
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط
الوسومأ.د/ عبدالرازق مختار محمود
شاهد أيضاً
من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!
كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …