الإثنين , ديسمبر 23 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

خادم المعبد

مدحت موريس

بدا على وجهه الإعياء وهو يصعد السلم للمرة التاسعة أو العاشرة فى أقل من ساعتين حاملاً فى كل مرة شكائر من الأسمنت وأجولة من مواد البناء اللازمة لاستكمال توسعة وتجديد المعبد من الداخل .

أسرعت نحوه لأمد يد العون محاولاً التخفيف من أحماله، لكنه – وبحركة لا إرادية – إبتعد بكتفه عن يدى الممتدة فحال بينها وبين مجرد لمسه …”لا تسلبنى بركة التعب والكد من أجل بناء معبد إلهنا العظيم ” هكذا قال لى بصوت واهن لا يخلو من التصميم، أردت مساعدتك …قلتها موضحاً ثم أضفت

” وأريد أيضاً نوال ولو جزءاً يسيراً من هذه البركة” رد هو يغادرنى وعلى وجهه شبه إبتسامة “إبحث عن بركتك بعيداً عنى”.

غادرنى بابتسامته المرسومة وترك لى إبتسامة أخرى إرتسمت على وجهى أنا من رد فعله فهو لم ولن يتغير…. قوى الإرادة، عنيد حتى فى قسوته على نفسه، لكنه فى النهاية صاحب مبدأ من الصعب أن يحيد عنه، هكذا هو منذ ان عرفناه أيام الصبا وحتى الآن بعدما إخترق المشيب جيلنا وعاصرنا وعاشرنا وأبى أن يفارقنا.

إختلف معه البعض من أبناء جيلنا، وتجنبه وتحاشاه الكثيرون من الأجيال التى تلتنا، وإتفق الجميع على شىء واحد وهو حبه العظيم للمعبد وتفانيه غير المحدود فى خدمته. تتوالى المناسبات والمواسم والأعياد وهو على الدوام حاضراً أمام بوابة المعبد واقفاً يراقب الداخلين إلى البيت العظيم…يمنع ويمنح….يمنع من يرتدون ملابس يراها لا تليق أو من يجدهم يأتون بصخب يتنافى مع قدسية المعبد، بينما يمنح صك الدخول لمن يجد فيهم جدارة وإستحقاق لدخول المعبد. أثناء المراسم والطقوس هو أيضاً موجود…فى كل موطىْ قدم تجده هناك…منتشراً فى أرجاء المعبد يراقب المتعبدين…ينظم صفوفهم أو يخفض من صوت أطفالهم….ومع إنتهاء المراسم لا نجد صعوبة فى البحث عنه فهو موجود فى كل مكان ….

ينظم صفوف الخارجين فلا تزاحم ولا تدافع على الأبواب وليذهب الجميع فى سلام ليبدأ هو فى التجول فى أرجاء المعبد الخالى وتتحول عيناه إلى مجهر يفحص كل ركن وكل شبر فى المعبد…يلتقط أوراقاً من الأرض، يمسح ذرات من التراب تناثرت هنا وهناك بل وحتى دورات المياة يدخلها ويتأكد من نظافتها …

وفى النهاية يلقى بنظرة أخيرة فاحصة قبل أن يوصد الباب خلفه ويعود إلى داره مطمئناً. هكذا سارت حياته بطقوس وضعها بنفسه ولم يحد عنها طوال سنوات عمره…طقوس موازية لطقوس المعبد -وإن لم يكن لها نفس القدسية- إلا أنها كانت فى أعماق نفسه واجبة التنفيذ. سمعت بمرضه أو بالتحديد سقوطه من فرط الإجهاد فهو يمارس نفس الطقوس ويبذل نفس الجهد منذ أربعين عاماً !!! ذهبت لزيارته وبادرته ضاحكاً مذكراً إياه برفضه مساعدتى له فى حمل مواد البناء فى الأسبوع الماضى

” يا راجل يا عجوز بقى عايز تاخد البركة لوحدك ؟ آخرتها وقعت لوحدك.” نظر تجاهى ولم يبتسم كما كنت أتوقع ولو من قبيل المجاملة، لكنه أشار لى لأقترب منه فاقتربت…وخرج صوته أقرب الى الهمس ” المعبد…المعبد وحشنى…أريد زيارة المعبد”، أجبته برد تقليدى يتكرر فى مثل هذه الحالات ” إن شاء الله… أول ما تقوم بالسلامة نزور المعبد على طول.” ولأنه عنيد حتى فى رقاده صوب نظراته السهمية نحوى ثم بصورة لا تتناسب مع معاناته الصحية قفز من فراشه معلناً أنه ذاهب الى المعبد الآن….

رضخت لقراره ولم أجد مفراً من صحبته الى المعبد. فى الطريق كنت أشعر حالته وقد بدأت فى التحسن ، وحينما هممت بركن السيارة شعرته موفور الصحة ثم اتسعت ابتسامتى عندما وجدته قد فتح باب السيارة قبل أن أتوقف تماماً. سرت خلفه غير قادر على ملاحقة خطواته ونحن نجتاز باب المعبد….وكأن مع كل خطوة تقترب به من المعبد تسرى وتنساب حياة متجددة فى أوصاله….ودخلنا وسرنا حتى صرنا فى صحن المعبد ونظرت وجهه باشاً ويتمتم ويكرر بصوت خفيض ” ما أجمل بيت الرب”

أما أنا فرفعت يداى مردداً صلوات تقليدية متقطعة ، ثم وجدته ينظر نحوى فى ألم وشفتاه تتحركان ببطء وكأن الكلمات تأبى أن تتدفق منها. القى بنفسه على احدى الأرائك فجلست بجواره….هالنى وأفزعنى دموعه التى انهمرت فجأة أمامى ولم أره يوماً يبكى… سألته”عزيزى هل آلمك شىء؟”.نظر نحوى فى حزن وهو يجيبنى……”أسبوع فى الفراش كنت أقرأ خلاله ما تصل اليه يداى…قرأت الكثير والكثير واستوقفتنى مقولة لشيخ حكيم وجدتها تصف حالى بصورة أفزعتنى” قلت مستنكراً

” تقول تصف حالك بصورة مفزعة؟” استكمل هو دون أن يعير كلامى اهتمامه ” كم من نفوس ضائعة يريد الرب لها أن تعود…..كم من بطون جائعة يريد الرب لها أن تشبع…….كم من قلوب حزينة يريد الرب لها أن تفرح.”… لم أفهم ما يعنيه لكنه أكمل ” أردت أن أصلى الى الله فتثاقلت الكلمات على لسانى ولم تخرج من بين شفتاى…فمنذ زمن لم أصلى كما يجب أن يصلى الانسان الى ربه حتى كدت أن أنسى كيف تكون الصلاة..لقد اهتممت بمعبد الرب بمبانيه وملحقاته، وهذا أمر حسن..ولكنى فى نفس الوقت أهملت نفوساً يريدها الرب بل وحتى نفسى أيضاً نسيتها فى انشغالى، وعندما قرأت كلمات الشيخ الحكيم أدركت فداحة خطأى” سألته ” وما هى تلك الكلمات؟

” أجابنى” قال الشيخ الروحانى الحكيم ….كثيراً ما خدمت بيت الرب…فمتى ستخدم رب البيت؟”.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.