الأربعاء , نوفمبر 20 2024

قراءة في رواية حين هربت عاريات مودلياني لأحمد الجنايني

ماجدة سيدهم

حين تألقت  هاربات الجنايني  قراءة  في رواية حين هربت عاريات مودلياني        

                                    الله وحده .. وقليل من المتعبين يدركون جيدا معنى أن         

                                                   يسكنك النهر .. والنار .. والعاصفة.       

كان علىّ  أن اقتحم كتل اللون  وأن اسكب نبيذ الكلمات على ضفائر من جنون الفرشاة التي لا تخطئ ارتباكاتها  فوق رحابات الروح المتخمة بالإثارة والإيثار ،كان علىّ أن اطرح خربشات خوفه المفعم بالمخاطرة التي طالما أنست  لعذوبة القرار برفقة اكتشاف المفاجآت مابين الهُنا والهُناك ، وكان علىّ قبل أن اثقب صخب السكون أن اقتحم مضجع فوضاه ،مواجهة الضوء الحميم لإيماءات وانكسارات القزح الطالع من خزفية الجسد المولع بشيطان الفن .. فيحيك  نسيجا من برق ونار يسكن  صمت الحالة ،يحيلها  إلى عامود من وجد يشطر أهازيج الغيمة ،تلتصق بسقف السماء ،يرسم اللغة  ويكتب اللوحة ، بات له هذا بمحفل بلا جغرافية ،يمارس شعائر العشق وجنون الحرف الفطري ..ويتلو تباعا خلف إله الجمال  العاري أغنيته المتألقة  ” حين هربت عاريات مودليانى”  لترتطم القصيدة  بفرشاة تلهث طيلة الحين وراء عالم  ساحر، عالم الماوراء ،والسكون الثائر  يسبح بحمد الأنوثة المضنية  و طغيان الحضور الشفيف  بينما تتسلق أصابعه درب من ضوء حاد  وهوس لمودليانى   ..

 الجناينى ، احمد الجنايني – شاعر – مصلوب اللون فوق مساحات من رؤية ، يطعن أحجية الصمت  بتعاويذ الولوج إلى أعماق وأصداف الذاكرة ، وبين  تعاريج الجدب المتربص بكل مرافئ الجمال ويزبد صراخا .

حينما وفي غفلة من نفسه -القي بين يدي بعاريات مودليانى- سيرة لذاكرة اللون ،ارتطمت الرتابة  أمامي بفخ حاذق ، حيث طرح العنوان بدايته العديد من التساؤلات المشاكسة ، من هن  تلك العاريات والى أين تأخذنا تلك المتسربلات بفطرية العري ليتجسد لنا ذالك الضوء المباح في  لغة وحوار وألم  ولون ..

ولماذا مودلياني – والى أي  مسرب يقودنا الجنايني  في عالم  رحيب من السمو والارتقاء بالحرف إلى عالم  الشعر المستحيل  ورؤيا انسكاب الوهج في بكارة سر اللون  ، هي تجربته الإنسانية في فضاء الإبداع ، وجدت بعض الصعوبة لأقف  تجاه  منحي محدد ، تلوت النص مراته المتتالية ،وفى كل مرة أعاود التشكيل من جديد ، فرغم شفافية  السرد الاّ أنه   من الصعوبة بحال أن يـُقرأ نص مودلياني على فترات متقطعة، وكأن الراوي بقصد فطري حاك ألوانه  بضربة واحدة  في بقعة  مضيئة من التألق الشعري ،  فيأخذنا  في رحلة  مع فرشاته وفراشاته في آن واحد –  بداية من تصميم الغلاف والذي ارتكز بدقة  على نظرة ثاقبة  لبطل الرواية ، واللون الذي انحسر تعدده مابين الأحمر والأسود وهي لرؤية واضحة غير قابلة للاحتمال  أو التراجع والتي  تكرر استعمالهما في أكثر من موضع ( غرابيب سود ومناقير حمراء ..خرج البيان يحمل مصباحا احمر.. حمرة الخجل . طائر يثقب جمجمتي بمنقاره الأحمر المدبب ……..و….)

موكب القيامة

****  الآن بصوت حميمي ( مرسوم على CD) اشبه بقطرات دفء في  عزلة شتاء ،  وكما العزف على خرير الوجدان – خفق الشاعر ببراعة ظبي شارد بانسكاب  مجونه الفطري  بين ملح الوديان وبنفسج الإيغال في عالم صوفي – حيث اللامكان محطما عقارب الزمن ، أجاد  تسلق  برية الموسيقى ورقص المعني بمرتفعات العشب الحار والكثير من الألوان  غير المعقولة في إناء فيروزي الغناء ، يرتل عري الروح  ورحلته عبر  درب الفن وإبداعات التشكيل والشعر – هي  مؤامرة حاذقة أتقن إبداعها ليكرس بالكلية  طاقتك وذهنك  لتغوص طواعية  بين ضفتي هوس  مودليانى والجنايني معا  -فنعيش إذا  تفاصيل الرحلة ..  

  تبدأ سيرة ذاكرة اللون مع تشرين خطوط اللوحة ( كان يوما حافلا بالموت والأغنيات – كان يوم خلاصي من رحم أمي وحين أصبحت أنا وأمي اثنين بكيت لأول مرة ) وكأنه مبتدأ الأوجاع من رحله الألم والعشق والشعر  واللون ، 

 يعلن  الجنايني – طائر اللون – عن هوية ألمه  – متلمسا القليل  من الراحة لقلقه المتصاعد في دربه العنيد ( أيها القلب المشاكس امنحني وقتا كي أدخلك وأغمض عيني وأنام  ) ،يتكلم حينا ومخاطبا نفسه حينا أخري   ليحلق بنا  أعلى  الأمكنة والمرتفعات  المتعددة في آن ،تونس ،لبنان، ألمانيا ، العراق ،بولندا ،نصعد درج جاذبية السطور بين رسائل عنابة العذاب ( عادل ) رفيق الروح – والتي كانت بمثابة مرآة شديدة المكاشفة والألم  والصدق ، ثم يعود بنا  ثانية حيثما بدأ متسكعا  بين حوانيت  ومعارض  وشغف  وجنون  ومقاهي-  مطاردا  كل سحر يلتقيه  وكل عطر بسام دونما إرباك يعتري الروح  ( من عالم  الولد المغامر  الملغم بوجدانات ومشاعر لا يعرف من أين تدخله   ومسكون بعوالم اللون والمساحة والكتلة والفراغ ، لا يستطيع  رغما عنه أن يخرج عن جاذبية المدار ) بينما ..  تلاحقه كل الحين ابداعات فنان ايطاليا وعارياتة ذوات الأعناق الطويلة  ( انتفاضات مودليانى برأسه وجنون مشاعر يتجاوز التي تجاوزت  بكثير جل قراءاته) متكئا  إلى حافة الحلم وحقيبة اللوحات  والكثير من صقيع الاغتراب ودفء الوجوه الحالمة ..

 بداية حادة

************

ويبدو جليا الشغف الصارخ  واللهث وراء الجمال المطلق أينما وجده أو صادفه أو فتش عنه ، يهرب من جحيم المخيلة – يطلقها عاصفة حالمة  تقصف برتابة المفاهيم الصامتة – بدءً من  حصة الرسم بمدرسة القرية بمنية سندوب  مرورا بمرحلة اختلاس كتاب تشريح الفنانين  لأخيه الأكبر (( وتلك الذكريات التي أعدها محمود بنفسه وبسرعة يخبئها في حقيبته القماشية بين كراسات الحساب وكتاب المطالعة ، التي يتعلم منها كيف يعرف تفاصيل الجسد الإنساني وكيف العلاقة بين الرأس والجسد ، بين الذراع والجسد – بين جمجمة الطفل والرجل العجوز وعظام الفك عند الرجل والمرأة ) لتأتي  مرحلة  كلية الفنون  وما أضفته كلمات دكتور حامد عويس عميد الكلية  آنذاك الوقت ( كانت جوازا للعبور نحو عالمه بحرية لا تقيدها قوانين الدرس بقاعة التصوير ولا تسلبه رغبة التحدي)  ليؤكد لنفسه مجددا أن قدرته على الإمساك بكل شياطين المخيلة تزداد عنفا ، بينما تتناثر الرغبة الجامحة لكسر المألوف والانطلاق خارج أطر التقليدي ، فيعيد  تشكيل  اللون كيفما يراه بين  شوارع السفر ومنعطفات الغربة  وسط  امتداد و شغف كبير من المشاهدين  الذين يرقبون فنانا يرسم البور تريه وقوفا ..

ورغم اللهث الدائم  وراء  جنون الفن  ،لم يكن في هذا  بمعزل عن الحركة التشكيلية فهو  يحمل في حناياه هموم وطن ، يحمله أينما سار واتجه مرددا في روحه وجعا يقظا (أمك  مغشية عليها لازالت … وأسئلة لا زالت تركله داخله وتمتص دمائه ما يجعله يشعر بالدوار )  رغم الآم الوطن  يحمل افتخار فرعونيته   التي  بها يزهو في كبرياء ، غيورا على التاريخ  حيث  هناك في المتحف المصري بصوفيا  يقول لصديقته (صفصافة الضوء) كما أحب  وأطلق عليها  ( تعالي معي سوف تشاهدين ملكيتي الأجمل   .. نفرتيتي .. تمنى أن يصرخ أمام كل الحضور معلنا أنه ابن هذا التاريخ  ،راح يصرخ  أنا الذي ارتويت مع شجرة الجميز حين  طفلا كنت –  من النيل الذي احتضن هاميس ..تأملوني جيدا لتقرؤوا ملامح قلبي المعجون بدم أوزوريس وروح ايزيس الجميلة  )

بينما أيضا تمتلئ جعبته بهموم  الفن  والحركة التشكيلية   فيجد نفسه في مواجهة  مع مسار الحركة التشكيلية  حين افتتح المعرض العام في دورته (24) بقصر عائشة فهمي عن العام 1995 والذي وصفة(” تلك الصورة الهزلية والتي كانت مثارا للجدل   وشكلا من أشكال الاستفزاز والفوضى التي لا تليق بحضارة وتاريخ شعب امتدت جذوره في رحم التاريخ )– إذ همش المعرض كبار الفنانين واستخف برموز الحركة التشكيلية ،  الأمر الذي دفعه أن يقذف بنفسه في معترك الحدث –  ليصدر  باسم نقابة التشكيلين بيانه  الصارخ  وما تلاه من تباعات وردود  شتى  كان لها من الصدى  الكبير والتأثير الايجابي  ..

 يقرر الرحيل – مدفوعا بفضاءات مودلياني (ها هو مودلياني ..يحب بجنون .. ويرسم بجنون .. ويبكي على صدر من يحب ..) – يتبع التجربة متحديا مرتفع  الوحدة والصقيع  ، يحيل كل المفردات والمعاني الصامتة إلى وطيور تحلق  تفض بكارة المساحة  بابتسامات  اللون ، ومابين نجاحاته وألام التجربة   وما تعرض له من سرقات مادية و فنية ورغم الكثير من المعاناة  ما خمد توهج المثابرة ، ظل طائر اللون  يلهث وراء مجونه الخرافي للفن والإبداع ( كانت الورقة والقلم ملاذه الأوحد في تلك الآونة وصراخه وأسئلته لا سبيل لهم سوى تلك المساحة البيضاء كي تتشكل عليها جملا وكلمات تمتصه وتهدئ من غضبه وخوفه )

 البحث عن الجمال

 عاريات مودليانى ورحلة قاسية  ومتعة  التسلق بين مرتفعات الجمال  والولع بالجسد ، الجسد  الأنثوي المطوب  في  اتساقه، يتحدق أصابع الرب متى شكلت من طين الأرض  الأنثى ليردد  خاشعا كل الحين ( كم أنت رائع أيها الرب ) تنمو إبداعاته  التشكيلية المتتالية  بين راحتي الانغماس  في شغفه  اللاذع  بالفن  دونما قيد أو ترتيب  منساقا حيث الجمال المطلق ( تراك إلى أين تسير أيها القلب المفعم بالألم..)  ويهدهد من روع احتدام تواتر ألوانه  الماجنة – بتهدئة أكثر اشتعالا  فيردد لنفسه (الله وحده .. وقليل من المتعبين يدركون جيدا معنى أن يسكنك النهر .. والنار .. والعاصفة..)،  في دروب  شعرية السرد يعانق حافظة اللوحات واسكتش الرسم ،  يحكي جل علاقته بالجمال عبر المرأة الأنثى ،حيث  لا قبح فيما يولد بين راحتي الله الجميل يقول  ( في خيال كل فنان امرأة مثالية يعيش معها في صورة كل امرأة تقابله ، والفنان الحقيقي هو الذي يحول دمامة المرأة الواقعية إلى جمال المرأة المثالية ، وتلك غاية من غايات الفن العظيم )  فأجاد التلاحم الفطري مابين مفردات الطبيعة والمكان  وكل ماهو مختلف ، الأنثى ، اللون ،الضباب ، الرصيف ،الدفء  ،اللقاء، مرارة الفقد ، الخوف ، شهوة الموت، يخفقها جيدا ويسكب نبيذ الوجد على أوراق الكانسون التي كانت أشبه بعشيقة أصابها  التهام  ألوانه الشريدة ..

   بينما عاريات مودلياني  بسحر فتنتهن يدفعن به نحو آفاق  أكثر سحرا وانطلاقا  ،مرصعة بكل رغبة جامحة للتحدي،  ليتشكل في وجدانه مساحة  مميزة في التشبث بفك شفرات الغموض الطاغي والتوافق  مع النفس والتواصل مع كل آخر   يلتقيه  في الحياة ، ونراه  ينسق القصيدة ويصف  باللون  فراشاته في كل امرأة التقاها ، فالمرأة  لديه هي ملخص الجمال الإلهي ، يصفهن رغم تباينهن  يقول  (تلك التي تحمل بداخلها قلبا  رائعا يعرف كيف يصل إليك ببساطة …) ،(   تلك المرأة التي شكلتها يد الرب كما هائلا من الدفء والعطاء ومنحتها عناية الإله القدرة على احتضان العالم بداخلها دونما عناء )..(  ألان يخرج من سجنه الكبير إلى حريته يفتح نوافذها عبر تلك الألمانية التي ربما لأول مرة يتحسس البحر في زرقة عينيها..)  ويواصل  في  طريقه  إلى فتاة برلين – كريستين ناختيجال – في قطار الرحلة ، استوقفته أخرى  ( ملامح هادئة لعينين في اتساع حمرة الخجل الذي تشرب وجنتاها  .. لم يتردد لحظة في القبض على تلك اللحظة الأثيرية التي شدته إليها  .. خلال خمس دقائق كان صاحب الفرشاة المغامر قد انتهى من رسم ملامحها  التي اعتقد أنها للوهلة الأولى أنها فرنسية )

  وهناك يأخذنا  حيث شوارع لبنان يستكمل  قزح اللوحة ويضيف ( لم يكد ينتهي من جملته حتى خطفت أنوثة تلخصت في خط لين رائع يرسم بشفافية لا نظير لها رائحة الوجنة لوجه لا يراه .. وانسيابية عنق يصل بالعين كتف أنثوي عار يلخص كل جماليات الأنثى ويصعد بلغة الجمال إلى منتهاها — لكنها بجلستها منحته   الفرصة الأثيرية لتلخيص أنوثتها بخط لين رقيق،  التقط من حقيبة اللوحات ورقة الكانسون وبسرعة عاش أحلي وأجمل  لحظات إبداع للمرة الأولى في بيروت الأشرقية )  إذ تتأكد وتكمن حقيقة وجوده في ذروة تألقه الإبداعي معلنا لذاته انه “هو “عندما تنزف روحه شهيدة على مساحات اللوحة ،لا يشغله  كثيرا من تكون وعلى وجه التحديد تلك الساحرة والتي يحاكيها في خطوطه  وينحت ملامحها الآن ، ربما  لا يؤرقه أحيانا أن يلتقي بها مجددا  ، ما  يهم إذا  هو القبض على  لحظات الضوء الخفي  – والذي يمنح كل هذا التوهج الحالم  لسحر يجسد كل معاني الحب والدفء والحنان،   لذا نجده يكمل  لوحة يقول عنها  (لوحة لإمرأة جالسة لا يعرفها ولا تعرف هي أيضا أنها ألآن إحدى مقتنيات وزارة الثقافة المصرية  )

 بينما راح بذكاء حاضر  يقتنص أيضا  من التاريخ أنوثته ، يقف  قبالة هيبتها ( نفرتيتى) يواصل شاعريته حيث الدهشة لا تنتهي ويصفها ( الرقبة الجميلة ودفء العينين مع اتساعهما وميلهما قليلا إلى الاستطالة المسحوبة كجسد سمكة تومئ بالخير والفتنة في آن واحد – وبهمس عاشقة تدثرها غلالة من الضوء والشعر والخيلاء ) متسائلا إزاء كل هذا الجمال  والجاذبية  ( كيف لمن يمتلك التاريخ أن يضيع في شوارع برلين وان تنام أمه الملكة واقفة في تابوتها الزجاجي سجينه   المتحف المصري بصوفيا اشتراسا

  هاربات الجنايني  والبحث عن الماوراء

****************

لاشك قارئ مودلياني  يكتشف  من طيلة رحله طائر اللون كم كان صوفيا  مولعا  بالفن الصعب  والجمال المستحيل فرغم ذاك الهوس النبيل بجمال الجسد الأنثوي لم يكن ليقف عن حدوده فحسب ،  بل بات يفتش فيما  وراء هذا الإبداع الخزفي  عن  شفافية الروح وفصاحة الرؤى  ،تلك  الحالة المضنية التي تشبه كرة الضوء  والتي تقطن كل هذا السحروتمنحه البهاء والقدسية  ،لذا  نجده  متى التقي بامرأة برلين والتي يصفها بالوقحة لما أبدته  من صلف و تعسف مقصود  تجاه مصريته  الأمينة  ، والتي بلا شك  أنها كانت تمتلك من الجمال ما دفعه  بداية لرسمها  ،غير أنه لم يتردد  في تمزيق ما قد سبق ورسمه باللوحة ..

  ويمضي محلقا  بين غابات  لم تبد له عصية يطارد  ذاك الوهج الذي  أسرف فيه الروح ليمتلكه والروح فيه لم تهدأ يقول ( لم تمنحه جميلات بنت هايم فرصة الخلاص فكان لابد أن يستكمل رحلة البدء حتى نهايتها ) ويذهب  يرسم على مسطح الفضاء الأبيض حيث  التقى بها  بدت له  الفتاة  ” هايدي ” أكثر جمالا  – حين تلك  اللحظة فقط  انسحبت تلك العاريات من الذاكرة ليتحولن من عاريات مودليانى إلى هاربات الجنايني – فيعاوده الحنين ، يتنفس ملء رئتيه برودة  هادئة ، على ضفاف دلتا النيل و يقبض  على الحلم  -البحث عن الروح – ويلتقيها : ( أخاف عليك من أنثى تنام بين اللون والفرشاة وتتنفس الشعر وإخبار والوطن قالت بكل ثقة : سوف أهدهدها حتى يشكلك اللون وترسمك القصائد وبتنفسك الوطن ..

 مبادرا  شجاعتها : لن يغفر لك جنون الفن شجاعتك فتندمين، قالت  في إبداع أنثى:  عند الحب لا نفهم الندم ، وتطرح المواجهة نفسها ، أنه ما هدأت نوبات الإبداع بل اشتعل دفق الشغف إلى الأعمق

 ** لماذا عنابه العذاب

  أشبه بمزيج  ملحي  من الحرارة والصدق ، رسائل عنابه العذاب ( عادل ) تشكل الملاذ لطائر اللون كلما عصفت به  أمواج الحنين  طفقت تمسح رزاز  الافتقاد  ورغم ما تحمله من  ذكريات حميمة ، رؤى فلسفية  وأخري ساخرة  وداعمة  ورغم احتلالها من مساحة الرواية لا يتعدى بضعة  ورقات  ورغم لا نجد تعقيبا  عليها من قبل الراوي- إلا أن  القارئ يستشف جيدا  مدى اعتراكها وانعكاساتها وتأثيرها  الطاعن في وجدان  الحالة والتي  أفعمت  القلب  بمزيد من الانغماس في مجونه الإبداعي

    قزح السؤال 

 طائر اللون ،ذاك الشغف الطاعن في رؤياه لفرط  إبداعاته المستحيلة،عاشق ..غاضب.. متألم ..يضحك ليمحو تباعا تلال المسافة ،يخرج من الحلم حيث مسطح اللون  لكنه في عزلته القصية  يقف قبالة سؤال هزلية الموت أو بالحري فلسفة الحياة ..متسائلا   ” تري لماذا يا أبي تركتني  ..ألم يكن حبي لك مبررا كافيا كي تبقى معي  أكثر ) ،  ويعود يكرر ذات الحيرة الشاحبة برحيل عنابه عذابه  ( لماذا الآن يا عادل ..؟ انسحابك خيانة للقلب والوجدان  لم نتفق على هذا .. لم تقل لي انك مسافر كي تتمدد على سرير أبيض في غرفة بيضاء كل ما فيها ابيض  )  ويتمدد السؤال  يسرد حكايا ذاكرة اللون  ، يمضي بلا إجابات لكن يجد المتكأ ( كان الطريق إلى اللوحة يمثل بالنسبة لي أجمل وأصدق الحلول  )

**مودلياني  ، هاربات الجنايني  ،رسائل عنابه العذاب  ، فريرش هارتمان  ( مسيح اللون )،  أصدقاء بيروت ، حب ، نجاح  ،إخفاق ،حلم ،صراع ،حنين ، حزن ، برد ، تشرد،خوف ، مرح، تأمل  و كل ابتسامة  دعمته في ليله التعب على أرصفة الجليد – كل هذت وأكثر شكل  ثراء ذهبيا لتجربة فنية  متميزة – لم تكن جميعها محض عبث أو  قيد  ثرثرة  بقد ما أضفت البعد الفلسفي على تجربته اللونية ، تتصاعد رؤاه الإبداعية -ترتشف من روحه  عذوبة اللغة المستحيلة  وصرخة اللوحة -فالعابر المنتبه  قبالة لوحات الجنايني على مدي عمر الفرشاة يجدها  تنبع من رسوخ ينزف من جذور البحث عن ما وراء الشيء ،عن قوى التدفق الروحي الذي يتألق تجسده مابين إعادة الصياغة  واختراع  تناغم مختلف لعفوية انسكاب اللون،  فبينما  ارتكز اللون في  النص الشعري  لمودلياني مابين الأحمر والأسود نجده تتصاعد وهجا مابين  شفافية الأصفر وغموض الأزرق وبكارة الأبيض ، فتتجاوز حدود احتشاد الفكرة إلي مرحلة التحرر الإنساني والإبداعي  ، لوحات الجنايني تقود تجربتها  إلى فلسفة في غاية من البساطة والرقة  أوجزها في عالم المصالحة ،تمتلئ  في صحبتها  بالاطمئنان والتآلف مع النفس والآخر والحياة والعالم ،حيث المجهول معلن ، المستحيل ممكن ، الخوف وهم، الحب عقيدة ،الجمال منتهى ،مع لوحات الجنايني نعيش النبوءة ،  فليس ثمة لغة تقرأ أو معنى مختبئا أو إيماءة ملغزة تثير فيك الارتباك  أوالغربة – قدر اكتشاف شفافية ما نملك من طاقات الانجذاب للولوج عمقا داخل عالم الصفاء الذي نحلم- وأمام مذبح التشكيل  ندرك  تباعا جل ما لنا  من أناقة  الصمت ،تلك الطاقة التي أجاد الجنايني ببراعة  تفجيرها في الوجدان ،تخلق فينا  القدرة الساحرة على الرسم والغناء والرقص والعناق العذب  في دعوة صريحة  للمبادرة والاستمتاع  بلغة المصالحة كمن يمارس في لحظته طقس تطهيري مع النفس  ، هي  ذروة التناغم مابين النص اللوني وشاعرية اللوحة ، تحمل التجربة رسالة سرمدية  معلـِنة “أنت وأنا  وسائر الأشياء لا محال من التقارب والالتحام  ” فتغدو متصالحا مع المفردات والتفاصيل و الكون والحياة بكليتها  

على الهامش

 في الندوة التي أقيمت  لمناقشة رواية حين هربت عاريات مودلياني  للفنان التشكيلي أحمد الجنايني – صار التناول أيضا متطرقا إلى  تلك المساحات السردية والتي تلونت بلون النص الخطابي الوثائقي  لتعبر عن مرحلة  متعثرة في   حركة للفن التشكيلي بمصر 1995 عايشها الراوي تفصيليا  ، لكن نطرح السؤال  هل يعيب  أن  يدرج مثل هذا السرد قى عمل أدبي  بقيمة مودلياني  أم يعد إضافة ومساهمة صادقة لتأريخ   مسار حركة الفن التشكيلي …؟ الماكث قبالة عالم  الجنايني والسابح في سيرة ذاكرة اللون ليسأل أي نزف على السطور صبغ وجع اللوحة  بلون الحلم  وأي عوالم  يتنبأ بها  تغني مزامير القصيدة ..

 ويبقى متدليا على السطر سؤال  ..

 سؤال على السطر  — عاريات مودلياني إضافة مختلفة إلى  المكتبة العربية التي  تفتقر إلى مثل  هذا الارتقاء في اللغة والتجربة والتي أجادت  تضافر المتعه  واحترام القارئ …   رواية  لم تقرأ بعد ….؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.