شاعت في الأيام الأخيرة موجة من النقد اللاذع، والهجوم الشديد، على ثلة من البشر، تم وصفهم بالمحتكرين، والمحتكر هو الشخص الذي حبس طعام الناس، وأقواتهم عند قلتها، وحاجتهم إليها؛ ليرتفع السعر ويغلى، والاحتكار في الاقتصاد هو تفرّد شخص، أو جماعة بعمل ما؛ لغرض السَّيطرة على الأسواق، والقضاء على المنافسة.
وهذا الفعل مجرم بحكم القانون، ومحرم بقول الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطئ، وفي المستدرك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى: أن يحتكر الطعام، وفيه أيضا قال: المحتكر ملعون.
وفي اللحظات الصعبة من تاريخ الأمم يصبح هذا الفعل أكبر جرما، وأشد إثما؛ لأنه يرقي إلى درجة الخيانة، خيانة النفس، وخيانة الأهل، وخيانة الوطن.
وإذا كان المحتكر هذا حاله، وذاك عقابه، وتلك سماته، ووجب علينا مواجهته وعقابه. فإنه وللأسف الشديد بيننا من المحتكرين كثر، خافية ملامحهم، باهتة صفاتهم، منزوية أفعالهم، عظيمة آثارهم.
هم فئة من المحتكرين لبًس عليهم إبليس فعلهم، فوجوههم ظاهرها العطاء، وباطنها الاحتكار.
فالمعلم الذي يلهو، ويلعب في مدرسته، ولا يخرج ما لديه في فصله، أو مداوم على أجازته، فإذا ذهب إلى قاعات الدروس الخصوصية، نجده فارسا مغوارا، يأتي بالجديد من الوسائل، والأساليب، ويسعى بكل السبل إلى المشهيات والمقبلات والمثيرات من الطرائق والاستراتيجيات، ويبدع دوما في كل ما يجذب الطلاب، فهذا أيضا معلم ( محتكر) حبس ما لديه من علم، وخان الأمانة، وضيع على الطلاب في فصولهم أوقاتهم، وسخر جهده، وطاقته من أجل أموال يحصدها في قاعات الدروس الخصوصية.
والمسئول الصغير ضعيف الإمكانات الذي لا يستمع لمعاونيه، وينفذ دوما أمره على خطورته، ويحصد دوما من النتائج أضعفها هو ( محتكر) يضر بمن تولى أمرهم، فجعل القرار على ضعفه حكرا عليه، وضرب بمصالح الناس عرض الحائط، ولا هم له إلا إنفاذ أمره، والمحافظة على صورته.
والطبيب الذي غاب عن المستشفى الحكومي، وأهمل في المستوصف الأهلي، وقصر في دوامه النهاري، وعلى عجل فحص القليل دون عناية، بغيه أن يذهبوا جميعا أو يذهب هو إلى عيادته الخاصة، أو المستشفى الاستثماري، هو أيضا طبيب ( محتكر ) بخل بما لديه على من يستحق من أجل المزيد من الأموال، دون مراعاة لضعف، وعجز هؤلاء، ودون مراعاه لتلك الرسالة السامية، التي أقسم على حملها بأمانة.
وأصحاب المحلات والمقاهي الذين حجزوا جورا، واغتصابا، وعدونا، نصف الأرصفة التي حصصت للناس، ناهيك على تلك الضوضاء، والملوثات التي ملأت المكان دون مراعاة لمريض، أو مسن، أو طالب علم ….. هو أيضا من المحتكرين الذين استغلوا علو صوتهم، أو رشوتهم، أو بلطجتهم؛ ليمارسوا احتكارهم في وضح النهار، وعلى قارعة الطريق، وأمام أعين المسئولين.
نعم هناك وجوه أخرى للاحتكار، فالذي يستغل نفوذه؛ ليحصل على استثناء هو محتكر، والذي قصر في عمله محتكر، والعالم الذي يبخل بعلمه محتكر، والذي لا يلتزم بحارته في الطريق محتكر، والوجوه العكرة التي تبث سمومها ليل نهار على الشاشات؛ لهدم الوطن هي أيضا محتكرة…….
نعم للاحتكار وجوه أخرى وصور مختلفة وأشكال متعددة، بعضها واضح وبعضها ليس كذلك، ولكن الواضح أن العديد يمارسون هذا الفعل المجرم، والمحرم، والمنبوذ، فليرجع كل منا إلى نفسه؛ ليبحث بصدق عن صور الاحتكار لديه، يرفضها، ويقومها؛ فإذا أصحلنا ما بداخلنا سوف يتحول كل ما يحيط بنا إلى صلاح.
فتغيير النفس من الداخل، وبداية الإصلاح، والتغيير من نفوسنا، حتما سوف يعقبه تغيير الجميع، فهي سنة الله في الكون، فالله لا يغير ما بقوم من ضعف، وعوز، ووهن، حتى يغيروا ما بأنفسهم من أنانية، وجشع، واحتكار.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط