في مراحل البناء والتطور، وفي اللحظات الحاسمة من تاريخ الأمم، للإعلام دور مهم في حماية الأمة، والزود عن مقدراتها، والمشاركة في تشكيل القيم، وإثراء الثقافة، والارتقاء بالسلوكيات، وتهيئة بيئة حاضنة تساعد في تطوير البناء، وكذلك تسليط الضوء على قامات ثقافية راقية، والمساعدة في إعداد الأمة لمواجهة التحديات.
ولا ننكر اليوم أن الإعلام أصبح متعدد النوافذ، فوسائل التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها وأشكالها، أعطت لوسائل الإعلام زخما كبيرا، فعددت من مصادرها، بل أصبحت في كثير من الأحيان هي رائدها، وقائدها في سيل المعلومات المتدفق يوميا.
وللأسف الشديد فإن بعض وسائل الإعلام في كثير من نوافذها حادت كثيرا عن هذا الدور الذي خُلقت من أجله، بل تعدته إلى أن صارت أحد معاول الهدم في مرحلة نحن أحوج فيها لكل عوامل البناء.
فالمتأمل لتلك النوافذ يجدها قد ركزت جهدها لنشر ثقافة الخرافة، وتدشين منصات السحر والشعوذة، وإباحة ثقافة التعري الجسدي والنفسي والخلقي والاجتماعي.
أما عن ثقافة الأبراج فحدث ولا حرج فهذه المنصات تُفرد عشرات الساعات في مواسم معلومة، وأوقات مخصوصة؛ لكائنات تتنبأ بكل شيء، وتحلق في سماء الغيب، بدرجة فاقت قدرة الأنبياء، وكأنهم عقدوا شراكة في تدبير الكون مع الله عز وجل، فهؤلاء يخبروننا من يموت؟ ومتى يموت؟ ولماذا يموت؟ بل أحيانا يأتوننا بقبس من أحاديث عن كائنات فضائية اختصتهم من دون البشر بأسرار الكون، وأخبرتهم بما لم يرد في أي كتاب سماوي أو أرضي، فوقي أو سفلي، بشري أو جني، ونجد للأسف من ينفعل ويتفاعل مع هذا الهبل الفكري، والعته النفسي، والخلل السلوكي، والتوهان الثقافي.
أما كتيبة العجائز والمسترجلات فقد امتلأت بهن الشاشات محرضات على صحيح الدين، داعيات ببجاحة لكل ما يحدث الشقاق لكيان الأسرة المتماسك، رائدهن في ذلك ادعاءات كاذبة بالحرية المطلقة، وإرهاصات ثقافة غربية تعود سريعا اليوم إلى حياض القيم والتقاليد.
وفي بيئة هذا تعليمها، وفيها هكذا صراع بين الديني والمدني، يجد هؤلاء بعض الصدى العفن من عقول علاها، وأحاط بها الران.
حتى عندما يتناول هذا النوع من الإعلام قضايا تهم المجتمع، وتسهم في الارتقاء به، نجد أن التناول يتم في سياق الإلهاء فعند تناول قضايا التعليم مثلا، فبدلا من أن يسهم في الارتقاء به، ويساعد في معالجة مشكلاته، ويسهم في استخلاص مقترحات وآليات مواجهتها، نجده يسطحها بصورة تجعل المستمع والمسئول ينفران من هذا الطرح، فتارة نجد موجة من البرامج، والأقلام اللاهثة، ومنصات الجلد والتعذيب، والتطاول قد نصبت للوزير جراء كلمة قالها يوما ربما كانت في السياق، وفهمت خارج السياق، وتارة نجد تلك الموجة موجهة لموضوع قد أثاره ذوي العلاقات الخاصة مع وسائل الإعلام، فنجد أما يوما خرجت محقة أو غير محقة تشتكي سوء معاملة طفلها في مدرسته، وما هي إلا لحظات ويخرج سيل من العازفين علي ذات العبارات، وتتحول تلك المدارس في لحظات وكأنها مسالخ لأخلاق أبنائهم، مدمرة لقيمهم، وهذا بعيد تماما عن واقعها؛ فيتألم العاملون، ويشعر الشاكون بالنشوة والانتصار، وربما في كثير من الأحيان تسوء علاقه التلميذ بمدرسته، وهذا النهج في معالجة القضايا مستمر عندما يتم تناول مشكلات الصيانة، والأمن والسلامة، وتطوير المناهج، وفاعلية الإدارة، فيتم التناول بشكل سطحي يبتعد عن عمق المشكلة، ويتجه للإثارة، ويجنح إلى رفع نسب المشاهدة، وافتعال المشكلات لا أكثر.
وفي قضايا الصحة يحدث ذلك أيضا، فقط ضل طريقة، قد يشاهده مصور بالصدفة داخل ردهات مستشفى، قد تُفرد له حلبات من النقاش الصاخب، وتلقى فيه التهم علي كل الأطراف، وشمطاوات حقوق الحيوان، تلهث للتعاقد مع أوكار التجميل؛ لتلحق على عجل بركب الصاخبين، ويتحول القط إلي مصدر مهم من مصادر الإلهاء، فبدلا من تسليط وسائل الإعلام الضوء علي مؤتمرات الأطباء، وعلي نجاحات المختصين، أو ما أنتجته قريحة الباحثين من مخترعات، أو الإسهام في رفع الوعي، وتدعيم الوقاية، نجدهم يلهثون خلف هكذا قصص ينبغي أن تعالج، ولكن ليس بهذا الضجيج.
وفي القضايا الدينية والاجتماعية التي يناقشها هذا النوع من الإعلام فحدث أيضا ولا حرج عن السطحية، والعشوائية فالتحرش هو المقرر الدائم عَلى طاولة كل المناسبات، وكلمة تخرج من عالم بقصد أو بدون نجد كتائب الإلهاء قد خرجت من جحورها مستخدمة كل أسلحة الترهيب، والتخوين، والتسطيح، ويتحول الهجوم بسرعه البرق علي الدين بدلا من القائل، ولا ينسى هؤلاء في تلك المناسبة توجيه سهام النقد اللاذع إلي الأزهر الشريف ورجاله، وهذا الطرح هو الوجبة الدائمة على مائدة منتسبي قافلة الإلهاء والإغواء.
فالأمه وهي تجاهد لكي تكون في مرحلة البناء، يصر بعض إعلامها علي أن يكون في مرحلة الهدم، ولا دافع له إلا تلك الأوراق البالية، التي سوف تكون وقودا للنار الملتهبة التي سوف تحرقه أولا قبل أن تحرق الوطن.
نعم ينبغي أن تقف وسائل الإعلام موقف المحفز، والمشجع، والحاشد، بل والتنوير؛ لفتح الآفاق التي تساعد علي الانطلاق في هذه اللحظات الحساسة والحاسمة من تاريخ الأمة.
نعم نحن اليوم في أمس الحاجه الي إعلام الشعراوي، ومصطفي محمود، وطارق حبيب، وأحمد فراج، نحن في حاجة الي أبلة فضيلة وحاتم بطيشه، وفاروق شوشة، وكلمتين وبس، وقال الفيلسوف ……..
وأخيرا فإن الإعلام الهادف هو الذي يسعي جاهدا لتدعيم مراحل البناء، ويعلي قيم المواطنة، والانتماء، ويبتعد كلية عن التحريض، والتهييج، والغواية، والإلهاء.
أيها الاعلاميون عودوا الي مقاعدكم متأملين، وداعين لعمل يرضى الله، ويخدم الوطن، فهذا الشعب في هذه المرحلة ليس في حاجه إلي إعلام يلهيه، ولكنه في أمس الحاجه الي إعلام يهديه.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط