في أغسطس الماضي، قبل شهرين على الذكرى السنوية لحرب السادس من أكتوبر 1973 التي تحل علينا اليوم، صدرت أخيراً الترجمة الإنجليزية التي طال انتظارها لكتاب “الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل” عن دار نشر هاربر في الولايات المتحدة. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية توالت المقالات والعروض للكتاب الإسرائيلي الذي يتناول قصة حياة وموت أشرف مروان، “أهم جاسوس في تاريخ الشرق الأوسط” كما يوصف دائما، والذي لم تنقشع بعد هالة الغموض والفضول بشأنه رغم مرور تسع سنوات على سقوطه من شرفة منزله في لندن ليلقى حتفه في يوم 27 يونيو 2007.
الكتاب، الذي نشر بالعبرية تحت عنوان Hamal’ach ليس بالطبع الأول من نوعه، فقد صدرت قبله عدة كتب في إسرائيل ومصر قبيل وبعد مصرع مروان. لكن ما يميز “الملاك” هو أن كاتبه ليس أكاديميا أو مؤرخا أو صحفيا كحال مؤلفي الكتب السابقة. صحيح أن مؤلف “الملاك” أوري بار-جوزيف، يعمل حاليا أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة حيفا، لكن الأهم هو أنه خدم على مدى 15 عاما كضابط في جهاز المخابرات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وتحديداً كمحلل استخبارات بوحدة الأبحاث بالجهاز.
في عام 1998 تم تكليف بار-جوزيف من قبل المخابرات العسكرية –كان وقتها ضابط احتياط بالجيش الإسرائيلي- بإعداد دراسة حول أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في التنبؤ بموعد اندلاع حرب 73 وبالتالي في تجهيز الجيش للتصدي لها. لم تنشر الدراسة أبداً نظراً لخضوعها لتصنيف “سري للغاية”، لكنها أتاحت لمؤلف كتابنا الاطلاع على المئات من التقارير التي حوت كافة المعلومات التي توافرت لأجهزة المخابرات الإسرائيلية المتعددة في السنوات السابقة على اندلاع الحرب، ومن بينها التقارير التي كان يرسلها منذ 1970 عميل سري لجهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”، وحملت اسمه الكودي Khotel. كان هذا العميل- كما انكشف بعد سنوات قليلة من إعداد الدراسة- هو أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ولاحقاً مدير مكتب خليفته أنور السادات.
“اليوم، تقبع الوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل في أربعة صناديق ضخمة للغاية في أرشيف الموساد. وإلى جانب الوثائق وترجمتها العبرية، فإن في الصناديق أيضاً تفريغ لانطباعاته التي قدمها شفهيا، والتي يطلق عليها “تقييمات المصدر”. تغطي هذه الأوراق طيفاً واسعاً من المواضيع، بعضها قليل الأهمية نسبيا، مثل التعيينات الحكومية الوشيكة، وتقييم السادات للتحديات الاقتصادية التي تواجه بلاده، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة وقوات الأمن الداخلي، وغيرها من القضايا الداخلية…غير أن أكثر المواد أهمية كان حول الشأن العسكري”.
أتاح تكليف بار-جوزيف بإعداد دراسة المخابرات العسكرية فرصة غير مسبوقة له للاطلاع على وثائق ما زالت تخضع لحظر النشر من قبل رقباء الجيش الإسرائيلي. لكنه استعمل ما استطاع الحصول عليه من معلومات، وما أمكن له من الناحية القانونية استعماله، من أجل تأليف كتاب سابق بعنوان “حين سقط جندي المراقبة في النوم” (The Watchman Fell Asleep) صدرت ترجمته الإنجليزية عام 2005، والذي أصبح أحد أهم المراجع حول أسباب ومظاهر ونتائج الفشل المخابراتي الإسرائيلي الذي أدى للمفاجأة المذهلة في ظهر السادس من أكتوبر وكاد أن يؤدي للقضاء الكامل على دولة إسرائيل، لولا التدخل الأمريكي إلى جانبها والذي مكنها من تغيير النتائج ميدانيا في غضون شهر.
في كتابه الجديد حول أشرف مروان لا يبتعد بار-جوزيف كثيراً عن موضوع وخلاصة “حين سقط جندي المراقبة في النوم”. فمن خلال البحث التفصيلي الدقيق في حياة وعمل ومصرع مروان، على مدى قرابة 350 صفحة، يسعى المؤلف والضابط السابق والأكاديمي الحالي للوصول إلى نفس الخلاصة، وينجح إلى حد كبير في إثباتها وإقناع القارئ بها:
“إن التحقيق في سبب الفشل الاستخباراتي الهائل لإسرائيل في الأيام السابقة على حرب يوم الغفران يؤدي إلى حقيقة واضحة: لم يكن السبب هو غياب المعلومات الدقيقة، بل كان رفض جهاز المخابرات العسكرية التخلي عن [النظرية السائدة وقتها] حتى بعد أن تجاوزتها التطورات بشكل واضح وقاطع. فبفضل مروان كان الإسرائيليون يفهمون بدقة حتى أكتوبر 1972 كيف يرى المصريون كلا من ضرورة شن الحرب والشروط اللازمة لشنها. غير أنه في غضون ذلك الوقت تغير رأي السادات ليقرر أن يذهب للحرب دون انتظار وصول الأسلحة التي سيحتاجها للانتصار في الحرب. قام أشرف مروان- كما سنرى لاحقاً بإبلاغ إسرائيل بإخلاص بهذا التغير. لكن المخابرات العسكرية فشلت في تعديل تقييمها وفقا لتقريره. كان هذا، وهذا فقط، ما أدى لفشل إسرائيل في أن تكون جاهزة حين اندلعت الحرب”.
وبسبب ذلك الموقع الفريد والموقف المعلن لمؤلف “الملاك”، فإنه يقدم لنا هنا أول دراسة حول فترة عمل مروان لصالح الموساد استناداً ليس فقط لما اطلع عليه من وثائق وتقارير، وإنما أيضاً لعدد من المقابلات الحصرية مع ضباط المخابرات الذين تولوا مسؤولية “إدارة” الجاسوس المصري في السبعينيات، والذين أصبح بإمكانهم الآن رواية جزء كبير من وقائع ما شهدوه بعد أن تم تسريب اسم مروان الحقيقي في إسرائيل في عام 2002 (في ظروف سنتطرق لها لاحقا في هذه السلسلة) وبعد أن لقي مصرعه في 2007.
على رأس هذه المصادر التي وافقت على الحديث لمؤلف “الملاك” كل من تسفي زامير، رئيس الموساد في الفترة من 1968 إلى 1974، وأرييه شاليف، مدير وحدة الأبحاث بالمخابرات العسكرية في الفترة من 1967 وحتى 1974، وربما المصدر الأهم، مائير مائير، رئيس الفرع السادس في وحدة الأبحاث وهو الفرع المخصص لمصر في الفترة 1969-1972، والذي تولى التعامل مع مروان كممثل عن المخابرات العسكرية إلى جانب الموساد، وشارك في أغلب اللقاءات مع الأخير في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية طوال فترة عمل مروان مع مخابرات إسرائيل.
هل كان مروان جاسوسا لإسرائيل أم عميلا مزدوجاً استخدمه السادات في تمرير معلومات مضللة للإسرائيليين و”رجلا وطنيا بحق” كما وصفه حسني مبارك بعد مصرعه؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال سنستعرض في الحلقة المقبلة طبيعة المعلومات والوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل عبر أعوام من تعامله مع أجهزتها، وتحديدا على مدار عام 1973 وصولا لحرب أكتوبر، وبهذا سيتمكن القارئ وحده من الوصول للإجابة.
نقلا عن مدى مصر