الثلاثاء , نوفمبر 19 2024
واسيني الأعرج
الكاتب والروائى العالمى واسينى الأعرج

قبلة ساركوزي «للحثالة»

واسيني الأعرج
شيء غريب. وأنا أتابع آخر تدخل للرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، في إطار حملته الانتخابية، التي يبدو فيها متأخراً عن غريمه آلان جوبيه، الذي يريد أن يظل في إطار السياسة الديغولية، أثارني شيء جعلني أتساءل عن مصير فرنسا والضغائن التي يتم تصنيعها على نار هادئة. ركز ساركوزي في تدخله الأخير على النقاط الأكثر جدلاً وحساسية التي لم تقترح فيها المعارضة أي شيء جديد: قضية الهوية الفرنسية، والأمن، والإرهاب، واضعاً في البراد المشكلات الكبرى الخاصة بالعمل وارتفاع البطالة والانكماش الاقتصادي.

الذين يعرفون ساركوزي، يدركون ازدواجيته وقبلة يهودا التي يتقنها عندما يجد نفسه وجها لوجه مع المعنيين من العرب والمسلمين. لم يتغير شيء فيه. ما يزال خطاب التخويف هو ورقته الأخيرة بعد أن غادره حتى بعض أنصاره من اليمين، في البرلمان وانضموا إلى الان جوبيه. ورقة الأمن والإرهاب، على الرغم من أهميتها وجدارتها، إلا أنها مستعملة، في هذه الحملة، كورقة انتخابية أكثر منها موضوعاً للمناقشة باتجاه إيجاد حل لها. هي نفسها ورقة اليمين المتطرف التي يريد ساركوزي أن يسطو عليها، لدرجة أن هذا الأخير احتج علناً على هذا السطو، وكأن الفكرة إبداع استثنائي مؤسسة على حقوق إبداع خاصة، وهي قديمة بقدم الإنسانية عندما تبدأ في فقد ما يجمعها مع بقية البشر، وتذهب نحو الاختزال والحلول السهلة. المشكلة الكبرى، ليست في هذه السلسلة من المفرقعات الانتخابية التي يعرفها الجميع، ولكن في الجمهور الذي يقف وراءها ويمنحها الحياة والاستمرار. تفاجأت، كيف صفق لساركوزي بحرارة، عندما توقف عند فكرة ضرورة كسر الحثالة la racaille التي تسمّم المجتمع الفرنسي، يقصد بذلك، طبعاً سكان الأحياء الساخنة التي تقطنها غالبية عربية أو مسلمة وحتى آسيوية، صينية وهندية، في السنوات الأخيرة. أطروحات لم تعد أبداً

تخفي عنصريتها بعدما كان ساركوزي يستعمل قبلة يهودا الواقية شكلياً على الأقل.
كل الناس يعرفون جيداً إخفاقه في تسيير وزارة الداخلية، حيث حدثت في وقته أعنف الاصطدامات التي قسمت المجتمع الفرنسي إلى فئتين بشكل يكاد يكون عنصرياً، بين فرنسا المفيدة وفرنسا المعطلة لعجلة التطور. يومها استعمل مصطلح الحثالة، وكأنه يتكلم عن مجتمع آخر غير المجتمع الفرنسي، وأن الذين يتهمهم بالحثالة، كأنهم ليسوا فرنسيين، جنسية وتاريخاً وثقافة؟ أعاد الشتائم نفسها وبنفس لغة الشارع، من جديد في اجتماعه الأخير بطريقة مسرحية. فجأة وهو يتكلم، توقف لثوان قبل أن ينطق بكلمة «ركاي الحثالة».

استغربت كيف يتجرأ رئيس جمهورية افتراضي أو محتمل، على شتم شعبه؟ فهو في عز حملة انتخابية ولو أنها أولية، لتعيين مرشحي اليمين واليسار لخوض غمار الانتخابات الرئاسية في 2017. كيف يهين جزءًا مهمًا من الشعب الفرنسي بكل مكوناته الثقافية وقيمه التي تعلمها وتشبع بها في المدرسة، مهما كانت التنوعات العرقية والإثنية واللغوية الكثيرة في فرنسا. فرنسي باريس، ليس هو فرنسي مارسيليا. وفرنسي كورسيكا، يختلف عن فرنسي الكاريبي. وفرنسي الشمال ليس

هو فرنسي ما وراء البحار. ساركوزي ينتقم من جزء من الشعب الفرنسي الذي لم تنفع معه قبلة يهودا الإسخريوطي لأنه لم يعد غبياً، ونزل الى الشوارع في آخر انتخابات رأسية ليصنع الفارق بينه وبين فرانسوا أولاند، حاملاً الأعلام الانتصار للاشتراكية، على حساب اليمين الساركوزي. أولاند للأسف لم يكن أحسن من سالفه فيما يخص الحلول الاقتصادية، ولا رئيس حكومته مانويل فالس، الذي بدل أن يتوجه للمشكلات الكبيرة كالمديونية التي وصلت إلى درجة أصبحت تهدد فيها فرنسا في الآجال القريبة أو المتوسطة، وملف البطالة المتفاقمة الذي ينتظر حلولاً حقيقية، ذهب فالس نحو تفصيلات يحلها القانون في النهاية، مثل قضية البوركيني التي

أسالت حبراً كثيراً. فقد كان الاشتراكيون أيضا خيبة كبيرة. وهذا يدل أيضا على جفاف الافكار في الجناحين. عجزت فرنسا، كما أوروبا في خلق نموذج وطني يرتكز على كل الفعاليات السياسية والوطنية خارج الايديولوجية والسياسة لمواجهة وضع شديد الخطورة لا يحله اليمين ولا الاشتراكيون، حل وطني. لا أدري لماذا ظلت قبلة يهودا الإسخريوطي ماثلة بين عيني وأنا أفكر في كتابة هذه المقالة.
عندما قبل يهودا سيدنا المسيح وشعر هذا الأخير في اللحظة ذاتها أن القبلة كانت

خيانة قبض يهودا ثمنها من الرومان الذين أنهوا حياة سيدنا المسيح مصلوباً على خشبة. قبلة دموية تحمل في ذاكرتها إرثاً ثقيلاً من الخيانة والظلم. حيرة الفرنسيين مبررة. ماذا لو فاز رجل لم يخف أبدا عنصريته ضد جزء مهم من المجتمع الفرنسي؟ ساركوزي صغّر فرنسا والديغولية حتى كاد أن يمحوها، وعوضها بنموذجية تسير وفق أطروحات وجهالة بوش الابن، التي تختزل العالم كله في «من ليس معنا فهو ضدنا».

ومزق اليمين التقليدي المعروف يتقاليده العريقة، وحوله إلى جزر صغير. ألان جوبيه الذي يعتبر آخر المحافظين على الميراث الديغولي، وفرانسوا فيون الذي لم يجد موقعه بين الاثنين حتى باختياره الموقع الوسط، ساركوزي الذي يلعب على فكرة تخويف الشعب الفرنسي التي أشك أنها ستعطي ثماراً كبيرة على الرغم من الإرباكات التي تحدثها. ميل المؤشرات الانتخابية نحو جوبيه يبين بوضوح رغبة الشعب

الفرنسي في الاستقرار وعدم الذهاب في المغامرات الخطيرة التي يحضّرها له ساركوزي في «نضاله» المحموم لاستعطاف اليمين المتطرف، الذي له مترشحته الوحيدة أبداً مارين لوبين.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.