يجلس وحيدا فى منزله، الجنرال الذى شارف على عامه الثالث والثمانين يقضى يومه فى استحضار بطولات عسكرية أو بالأحرى «جوية» قام بها وقت أن كان ضابطا صغيرا بالجيش، لا يبرح بيته إلا نادرا، ولا يتلقى زيارات من رفاق أو أقارب، هكذا صارت حياته بعد رحيل زوجته، خاصة أن اللواء صلاح المناوى، قائد عمليات الجو فى حرب أكتوبر، لم يرزق بأولاد. يشتاق بين الحين والآخر لامتطاء إحدى الطائرات والتحليق بها، الرجل لم ينس الطيران
بعد، يقول: «الطيران مش بيتنسى، أنا كان فيه شركات أمريكية عرضت عليا طائرة خاصة، وكنت هجيبها، إما أطير بيها بنفسى، أو يكون فيه طيار مصاحب ليها، لكن مفيش مكان أصونها فيه». لم يعد قائد الحرب راغباً فى ارتداء «بدلته» العسكرية بعدما قام بخلعها عام 1979، يرى أن شرف هذه البدلة قد أُهين، لا يحترمها حتى مرتدوها، «الباشوات الكبار محترموش البدلة العسكرية»، فلم يرتديها هو؟ يتساءل الجنرال المتقاعد.
تقاعد اللواء صلاح المناوى تاركاً حياته العسكرية الطويلة فى عام 79، ليشغل بعد ذلك منصب مستشار بإحدى شركات صناعة الطائرات الحربية المقاتلة الأمريكية، مهنة لم تبعده كثيراً عن حروب الجو، ولم تقتل لديه الرغبة فى قيادة الطائرات الحربية، رغم عمره الذى جاوز الثمانين. تبدأ حياة الطفل المفتون بتلك الطائرات التى تمر من فوق منزله، طائرات إنجليزية تمخر سماء مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، الطفل المولود فى عام 1929 لم يكن يحلم أن يحالفه الحظ يوما ويركب إحدى هذه الطائرات، ينظر لها فى صمت، فى هذه اللحظة اختار «صلاح» مصيره: «سأصبح ضابطاً
فى الجيش». يقول المناوى: « دخلت الكلية الحربية عام 1948، وتخرجت منها عام 1950، وكانت الكلية الجوية وقتها تستعد لاستقبال دفعة جديدة من الطلاب، لم أكن لأصدق أن حلمى فى التحليق بات قريباً منى، فالتحقت بها فى فبراير 1951 ضمن طيارى القتال، كنت قبل ذلك بسنين أهوى الطيران، سماعى عن طيارينا المعدودين أيام الملكية دفعنى لتقدير هؤلاء الرجال النادرين من نوعهم». تذكر المناوى أيامه الأولى فى سلاح الطيران، كان وقتها ضابطاً برتبة ملازم أول حين استدعاه الضابط جمال سالم، عضو تنظيم الضباط الأحرار فى استراحته بالعريش وقتها، ليقنعه بالانضمام لتنظيم الضباط الأحرار الذى يسعى
لإصلاحات واسعة المدى فى الجيش، والدولة، اقتنع المناوى بما عرضه عليه سالم، لينضم إلى تنظيم الضباط الأحرار. لم تقف العلاقة بين جمال سالم أحد قادة ثورة 1952، والملازم أول صلاح المناوى قائد سرب الطائرات السوخوى الروسية فى العريش، بعد الثورة، لكنها امتدت وزادت فى العمق، يقول المناوى: «حاول جمال سالم إقناعى بعد نجاح الثورة بالعمل خارج القوات الجوية فى إحدى وزارات الدولة ذات الطابع غير العسكرى، وزارة الخارجية بالذات، إلا أننى رفضت وقلت له: أنا راجل بتاع طيارات
ومناورات جوية مش بتاع خارجية أو غيره، ولا أحب سوى قتال العدو على جبهة القتال وضرب أهدافه من الجو». حياة القائد الجوى حديث السن لم تخل من التحديات، يذكر المناوى أنه حين وصل لرتبة الرائد «صدر أمر لى بالذهاب للقاء الفريق أول صدقى محمود، قائد القوات الجوية وقتها، ليخبرنى أنه أثناء عودة
الرئيس جمال عبدالناصر من رحلته الأخيرة للعاصمة الروسية موسكو، كان قد حل ضيفاً على اليونان، وقامت القوات الجوية اليونانية وقتها أمامه بأداء عرض جوى بتشكيل من 6 طائرات مقاتلة قامت بألعاب جوية مشتركة، وأعجب الرئيس عبدالناصر بالعرض الجوى ثم سأل: هل لدينا مثل هذا فى مصر؟ فكان جوابى على الفريق أول صدقى محمود نحاول يا فندم». أشرف الرائد
المناوى بنفسه على إعداد أول تشكيل طائرات للعرض الجوى فى مصر، «المشكلة أننى لم أحصل على وقت كافٍ من قائد القوات الجوية لتدريب الطيارين على هذه الألعاب الجوية شديدة الصعوبة، وكنت قد أكدت لقائد القوات الجوية أننى سأعد تشكيلاً للألعاب الجوية هو الأكبر عدداً من 9 طائرات كالذى يقدمه السلاح الملكى البريطانى، لم يكن أمامى وقتها سوى 25 يوماً لتقديم العرض فى حفل تخرج الدفعة الجديدة من الكلية الجوية، والطلب
شديد الصعوبة، ولتوضيح مدى هذه الصعوبة التى تورطت فيها لتوى، أن التشكيل الذى كانت تقوم به القوات الأمريكية الجوية لم يكن يضم وقتها سوى أربع طائرات، ورغم ذلك فإن الخطأ الصغير الذى وقعت فيه إحدى هذه الطائرات الأربع تسبب فى اصطدام الطائرات كلها فى الأرض، ومات طياروها».[Image_2] الحياة ليست مملوءة بالنجاحات وحسب، مرّ المناوى بأصعب فترات حياته حين هُزمت القوات الجوية فى معركة لم تدخلها حين ضُربت طائراتها على الأرض فى غارات العدو الجوية، لكن هزيمة يونيو 1967 كانت سبباً فى الدفع بالمناوى ليشغل منصب قائد عمليات القوات الجوية، يقول المناوى: «انتكاسة القوات الجوية فى حرب 67 كانت سبب إزاحة عدد كبير من القادة الجويين، وصعودى
ضمن قادة جدد لتولى مهمة إعادة القوات الجوية أقوى مما كانت، كنت فى ذلك الوقت برتبة عقيد طيار عندما توليت رئاسة عمليات القوات الجوية، وهى الجهة المسئولة عن إعداد القوات الجوية وتجهيزها للحرب». «كنت أصغر من تولى هذا المنصب، فلم يكن يتولاه أقل من لواء طيار، أول ما قمت به وقتها عقد مقارنة بين قواتنا وقوات العدو، من جميع النواحى، وكان أول طلب لى هو
ضرورة الدفع بعدد كبير من الطيارين إلى القوات الجوية، وكان الرد من القيادة أن ذلك (غير ممكن)، فكان إصرارى سبباً فى فتح باب التقدم للقوات الجوية، وكان العدد المتقدم أضعاف ما طلبت»، يقول القائد الجوى المتقاعد. يعد المناوى أمورا كانت هى السبب الرئيسى وراء هزيمة القوات الجوية فى النكسة منها: «أسلوب استخدام القوات الجوية لتأدية مهامها بصورة فعالة لم يكن هو الأمثل حين توليت قيادة عمليات القوات الجوية، كان لا بد من
تدريب القوات الجوية بكامل طياريها على ضرورة تدمير أهداف العدو فى وقت محدود مع إحداث أقل الخسائر فى صفوف قواتنا الجوية، وهو ما تم فى الضربة الأولى التى شارك فيها 220 طائرة مقاتلة ومقاتلة قاذفة، ولم تكن الخسائر سوى 6 طائرات أربعة منها سقطوا بواسطة قوات الدفاع الجوى للعدو، وطائرتان اصطدمتا بالمياه نظراً لطيرانهما على ارتفاع منخفض جدا». يتألم اللواء المناوى كلما تذكر الحوار الذى دار بينه وبين الفريق مدكور أبوالعز، قائد القوات الجوية وقت النكسة، حين قال المناوى: «يا فندم إحنا هنرص الطيارات مرة تانية على الممر،
علشان العدو يضربهم تانى بسهولة؟»، فتألم قائد القوات الجوية من كلام المناوى ثم أزال عن نفسه الرتبة من فوق كتفيه، وأجاب: «خد رتبتى انت وقولى نعمل إيه؟». بعدما أنهى العقيد المناوى حواره مع قائد القوات الجوية مدكور أبوالعز، بدأت القوات الجوية فى «بناء 600 دشمة شديدة القوة لوضع الطائرات بداخلها، وكان تدمير هذه الدشم أمر غاية فى الصعوبة حتى مع استخدام قنابل الممرات». خلقت مناهج الدراسة فى مدارس مصر أسطورة اسمها «الضربة الجوية الأولى» لتلصق شرف هذه الضربة بشخص الرئيس السابق، الذى لم يشارك أساساً فى القيام بها وفقاً لما قاله
المناوى، «حسنى مبارك لم يكن طياراً مقاتلاً، وبالتالى فهو لم يشارك إطلاقاً فى حرب أكتوبر، وما تم نشره من قبل المحيطين به أنه كان قائداً للضربة الجوية الأولى محض كذب، مبارك كان مدرباً فى الكلية الجوية قبل ارتقائه سلم القيادة الجوية، ليصل إلى قائد القوات الجوية». «الخطأ الأنكى أن مبارك تدخل لدى قيادات الجيش، متسبباً فى منع القيام بضربة جوية ثانية، كانت كفيلة بإنهاء أمر الدفاع الجوى للعدو بما يسهل عمل الطائرات الهليكوبتر المخصصة لنقل الجنود المقاتلين إلى الضفة الشرقية
للقناة، الأكثر عجباً أننى عندما طلبت أن تكون طلعات هذه الطائرات الهليكوبتر فى وقت الليل كى لا تمسك بها قوات العدو، كانت إجابة الفريق مبارك بالرفض، لذلك لم يكن من العجب أن يتم الإيقاع بعدد أكبر من الطائرات الهليكوبتر المصرية أثناء نقلها الجنود المقاتلين إلى جبهة القتال أو أثناء عودتها»، يشن المناوى حربه على الرئيس السابق. الفريق أحمد شفيق، كان له من شهادة اللواء صلاح المناوى نصيب، يذكر المناوى أن «أحمد شفيق كان ضابطا صغيرا فى سلاح الجو برتبة نقيب أيام الحرب، لكنه كان ضابطا ممتازا، ولا يجوز أننا نبخسه حقه لأى اعتبارات سياسية،
أذكر مثلا أن أربع طائرات إسرائيلية كانت تلاحقه فى وقت واحد، وحاول طيارو الطائرات إسقاط طائرة الطيار أحمد شفيق، لكنه تمكن من مراوغة الطائرات كلها، وطار بعيداً عنهم دون إلحاق الأذى به».