الإثنين , ديسمبر 23 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

أبى

مدحت موريس

اعلم جيداً ان لكل طريق نهاية، وعمر الانسان ما هو الا طريقاً يمتد ومهما امتد فلا بد ان ينتهى،

كنت اعلم كل ذلك بل وهيأت نفسى او تخيلت اننى هيأت نفسى للتعامل مع امر واقع لكنى مع- كل هذا لم استطع تقبل الحقيقة. يرن جرس الهاتف واسمع كلمات متناثرة مخنوقة تخبرنى بما ظننت اننى هيأت نفسى له….تخبرنى الكلمات بتوقف قلب ابى عن النبض،

حاولت ان افسر كلمات لا تحتمل الا معنى واحد، لكنى مضيت افكر وافسر…احقيقة توقف قلب ابى؟ وهل تتوقف الحياة عن النبض؟ هل يتوقف نهر الحب عن التدفق؟

مستحيل…بالفعل مستحيل ان يحدث مثل هذا…لكن المستحيل بكل اسف تحقق واصابنى بحقيقة مؤلمة ادمت قلبى ما تبقى من سنوات عمرى. نتقبل مايجرى على مضض ونتهيأ لاجراءات ومراسم كلنا نعرفها لكننا لا نعرف كيف نعيشها عندما تأتى،ووجدت نفسى فى لقاء نظرة الوداع او لقاء النظرة الاخيرة وتثاقلت خطواتى شعرت وكأنها تشفق على من مواجهة الموقف لكنى فى النهاية وجدت نفسى واقفاً حيث يرقد ابى فى سلام بوجه مشرق وقد زالت عنه متاعب الحياة وآلامها، تأملت وجهه ، تأملت كل جزيئات ابى الذى اعرفه ومن بين دموعى تتسلل طفولتى وتنادى عليه وتبكى حرمانى من كلمة ابى …

انا الطفل الذى تجاوزت سنوات عمره الخمسين…..وفى ثوان قليلة يتبدل المشهد وارى نفسى معه ، طفل صغير يمسك بيد ابيه ،تتوه يدى الصغيرة فى راحة يده، تبحث عن الامان وتخشى ان اتوه انا فى زحام الطريق. تضغط يد ابى الدافئة على يدى بقوة لا تخلو من الحنان فتمنحنى ما ابحث عنه. كانت عادتنا ان يصطحبنى ابى معه الى السوق يوم الجمعة – اجازتنا الاسبوعية – لشراء مستلزمات منزلنا من طعام، وكنت بدورى انتظر ذلك اليوم واستمتع به وارى نفسى رجلاً صغيراً اشارك ابى واجباته الاسرية…يقوم ابى بشراء ما يلزمنا من اطعمة…. هذه تحبها اختك…وتلك يحبها اخيك، اما هذا وذاك فهما من اجل والدتك…اسأل ابى فى غضب طفولى ..وماذا عنى انا؟

الن تشترى لى ما احب؟ فيضحك ابى ويقول لى ” كل ما اشتريت هو لك فانت مثلى تماماً…تحب كل شىء. يخجلنى ابى بكلماته وافرح بأن اكون مثله احب كل شىء…ولا اخبره بالطبع بان هناك بعض من الاشياء التى التى لا احبها، لم اخبره لاننى احببت ان اكون مثل ابى مثلما قال وتوقع. يستمر ابى فى شراء ما يلزمنا وتتعدد حقائب المشتريات البلاستيكية فى احدى يديه بينما امسك انا بيده الاخرى ثم يستيقظ فى داخلى الرجل الصغير فاحمل بعضاً من المشتروات لبضع خطوات ثم تسترخى يداى وتكادا تلامسان الارض بما احمله، ينظر نحوى ابى فى اشفاق وهو يبتسم

ثم يتناول منى معظم ما احمل ويترك لى ما خف وزنه ليخفف عنى احمالى ، يحمل ابى حقائب المشتريات بكلتا يديه بل بكل اصابع يديه وترك اصبعاً واحداً حراً اتعلق به وانا اكاد اجرى بجواره بخطواتى القصيرة….يتصبب العرق من وجه ابى تحت وطأة ما يحمله وايضاً مع حرارة الشمس بينما انا ارقب ظلى القصير وهو يركض ويحتمى بالظل العملاق لابى.

انظر الى يد ابى فى صندوقه الخشبى …تتجرأ يدى وتلامسها ثم تمسك بها، لم اشعر ببرودتها بل حقاً كانت يداه كالعهد دافئة، شعرت بيدى الضئيلة تغوص فى راحة يده لكنه هذه المرة لم يضغط على يدى كما عودنى دائماً، تجاسرت وامسكت باصابع يده وكأننى اريد ان اتشبث بها لكن اصابعه المستسلمة ليدى لم تعد قادرة على ان تحملنى،

فاتساءل دون ان ادرى ان كنت فقدت ايضاً اليد التى طالما كانت سنداً لى فيزداد حزنى ويسكن الهم صدرى واكاد افقد اى امل فيما هو قادم من حياتى، لكنى مازلت اسمع صوته الحنون يرن فى اذنى وفى قلبى بل فى كل كيانى، صوت قادم من بعيد…صوت تجاوز سجن الجسد المريض، صوت انطلق من روح قوية وجدت طريقها الابدى….صوت ابى مازال يملأ كيانى وكل حياتى فيمنحنى قدراً من القوة استعين به فى مواجهة سنوات عمرى الباقية،صوته يخبرنى انه مازال موجوداً ولن يتخلى عنى، صوته يمهد لى الطريق ويدعونى لاستكمال المسيرة….اية مسيرة تقصد يا ابى؟…

انها مسيرة الحب الذى كان قد بدأها حتى قبل ان تبصره عيناى….اسأل صوت ابى وهل اقوى انا على ذلك؟…تمتد يدى مرة اخرى وتمسك بيده فتغوص فى راحتها واشعر بضآلة يدى اذا ما قورنت بيد ابى ثم اتذكر ظلى القصير الضئيل الذى لا يقارن بظل ابى الذى كنت احتمى به ثم اخيراً اتذكر يد ابى الحنون وهى تضغط على يدى فتمنحها الدفء والامان. صعب على يا ابى ان اكون مثلك لكنى اعدك بأن احاول، ساحاول يا ابى ولن اكف عن المحاولة فقط امنحنى انت الدفء والامان واضغط على يد طفلك كما كنت تفعل دائماً….

انتظرت و انتظرت حتى شعرت بيد تضغط على يدى، نظرت لابى فاذا بيده كما هى لا تتحرك لكنى وجدت ابنى – الحفيد – وقد امسك بيدى الاخرى ويضغط عليها مشجعاً…شعرت بخيبة امل للحظات لكنى فهمت بعدها معنى الرسالة وانا واقف فى منتصف المسافة ما بين الجد والحفيد…تركت يد ابى برفق وانحنيت عليها مقبلاً….نظرت الى ابى مودعاً وشعرت انه ينظر نحوى مشجعاً وانا اتجه خارجاً ممسكاً بيد ابنى لنستكمل مسيرة ابى.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.