من أشهر العبارات المنسوبة للزعيم الهندي غاندي قوله: لأننا فقراء؛ فلا نستطيع إلا الإنفاق على العلم.
نعم صاحب الرؤية الثاقبة يدرك أن هكذا ميدان هو ميدان الإنفاق الذي لا مفر منه، هو مجال الإنفاق المقدم على كل المجالات، وإن كنا فقراء لا نملك إلا الإنفاق على ميدان واحد ووحيد، فليكن هو التعليم.
والقارئ لتجارب العصر الحديث التي نهضت في ميدان التعليم يجد أن فلسفتها قامت على الانفاق والاستثمار في التعليم، فتجربة كوريا الجنوبية شاخصة أمام أعيننا، فقد كانت كوريا الجنوبية من أفقر دول العالم؛ لكنها تغلبت على قلة الموارد؛ لتصبح من ضمن تجمع العشرين لأقوي الاقتصاديات في العالم، فيما عرف بمعجزة نهر هان، ففي أقل من ٣٠ سنة فقط تضاعفت ميزانية التعليم في كوريا أكثر من ١٥٥ضعفا، حيث قفزت من ٣٠٠ مليون دولار إلى ٤٧ مليار دولار! وهو ما يوازي 18% من جملة إنفاق الحكومة، وللعلم فإن كوريا الجنوبية عدد سكانها هو ٥٠ مليون نسمه! أى تقريبا نصف سكان مصر.
وفي كوريا الجنوبية ارتفع نصيب الفرد من 87 دولارًا سنة 1962م إلي ما يقرب من 19.000 دولار في السنوات الأخيرة اعتمادًا علي النمو الاقتصادي الذي أحدثه التعليم في العقود الخمسة الأخيرة.
لهذا لا نجد غرابة عندما يصرح الرئيس الكوري الجنوبي “لي ميونج باك” قائلًا: “إنها قوة التعليم. حتي عندما لم يكن لدي الآباء أي طعام علي موائدهم فإنهم كانوا يضحُّون بكل شيء لتعليم أبنائهم. وهؤلاء الأبناء تم إعدادهم؛ ليقودوا النهضة الاقتصادية لكوريا. أنا أعتقد – والكلام لميونج- أن التعليم هو مفتاح تقدم الأفراد والبلاد والعالم.
وبهذه الإجراءات الجادة احتلت كوريا الجنوبية المركز الأول في مؤشر منحني التعليم للعام 2014، وتلتها اليابان ثم سنغافورة وهونج كونج. تقدمت دول شرق آسيا علي بقية الدول في التعليم، بينما حلت فنلندا، التي كانت الأولي خامساً
وفي ماليزيا ليس من الغريب أن تكون وزارة التعليم هناك أهم الوزارات وليست وزارة الدفاع أو الداخلية أو الخارجية، كما يبلغ إنفاق ماليزيا حاليا على التعليم 28.01% من الموازنة العامة بعدما استمر لسنوات عديدة 24 %، محتلة بذلك المركز الثاني عالميا, بدءًا من التعليم الأساسي، وحتى الجامعات بحيث يتم إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة خاصة المدارس الفنية، وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر، والاهتمام بالبعثات التعليمية لكل دول العالم.
والناظر في معظم ميزانيات الدول المتقدمة اليوم في كافة المجالات، يجد أن الإنفاق على التعليم، والبحث العلمي مقدم على كل بنود الإنفاق.
أما نحن في عالمنا العربي فإن الإنفاق على التعليم يستق مع الاهتمام بالتعليم، فهذا الاهتمام يأتي في ذيل الاهتمامات، وهكذا الإنفاق عليه فالعالم العربي قليل الإنفاق على التعليم، والبحث العربي، حتى إن العديد من الدول الأفريقية الأكثر فقرا نسبة إنفاقها على التعليم أكثر بكثير من بعض الدول العربية.
بل إنه عندما تنبه المشرع في مصر لخطورة الإنفاق على التعليم اشترط نسبة محددة من الإنفاق الحكومي حيث نص الدستور على تخصيص نسبة ٤٪ للتعليم قبل الجامعي، ونسبة ٢٪ للتعليم الجامعي، و١٪ للبحث العلمي، أى أن هناك نسبة 7٪ خصصها الدستور للإنفاق الحكومي على التعليم والبحث العلمي، وهي على قلتها إلا أنها خطوة على الطريق، وخصوصا إذا علمنا أن الإنفاق على التعليم في اسرائيل يصل لنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ويقوم الكيان الاسرائيلي بدعم معظم المدارس، إذ ينفق ما معدله حوالي 1100 دولار على كل طالب سنوياً.
وعلى الرغم من ذلك تحايلت أيدي الروتين والبيروقراطية بهذه النسبة وفرغتها من مضمونها، ولم تلتزم بها معلله ذلك بضعف الموارد وقلة الدخل، ولكن هي القناعات التي نعاني منها طول عقود طويلة وهي ضعف الاهتمام بالتعليم، واحتلاله ذيل الأولويات.
والمتأمل حتي لهذه الموارد التي خصصت للتعليم على قلتها، يجد أنها في مجملها عبارة عن مرتبات، وبنود صرف تبتعد كثيرا عن صلب العملية التعليمية، وما ينفق من هذه الأموال على المشاريع البحثية، والتطوير المهني للمعلمين والإداريين، وكذلك ما ينفق منها على تطوير المناهج، والتجهيزات المرتبطة بتفعيل العملية التعليمة هو النذر القليل من هذه الأموال، فالأجور والمرتبات، تستحوذ على ما نسبته 93 و95% من مخصصات التعليم في المرحلة ما قبل الجامعية، ثم هامش ضئيل تتراوح نسبته بين 5 و7% للأبنية ومصروفات التشغيل.
والخلاصة أن الفقر لا ينبغي أن سببا أو عائقا لانخفاض الإنفاق على التعليم، بل على العكس تماما، وذلك لأن الإنفاق والاستثمار في التعليم هو الاستثمار الحقيقي، والأسر الفقيرة تضرب لنا مثلا قويا لذلك، فهذه الأسر على الرغم من ضيق ذات يدها، إلا أنها تدخر وتؤخر كثيرا من احتياجاتها رغبة في الإنفاق على أبنائها في كافة المراحل الدراسية، راغبة في تعليم أبنائها تعليما مناسبا يؤهلهم للعمل مستقبلا في وظائف تساعد في رفع مستواهم المعيشي.
وأخيرا فإن الإنفاق على التعليم لا علاقة له بالرفاهية، وإنما له علاقة بالأولويات التي ترسمها الدول لنفسها، فالأمم الراغبة في تحقيق تقدم ثابت وراسخ وشامل، هي أمم تضع التعليم على رأس أولوياتها، وهذا ليس بدعة فكل الأمم التي سطرت تقدما في معظم مجالاتها كانت بدايتها ومرتكزها في هذا التطور هو التعليم، ولا شيء غير التعليم، وإذا أردنا أن نأخذ من التقدم نصيبا، فينبغي أن نرصد للتعليم ما يناسبه من مخصصات ماليه، وعلى عجل يجب مراجعة أولوياتنا وتحديد موقع التعليم من هذه الأولويات.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط
الوسومأ.د/ عبدالرازق مختار محمود
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …