قد يتصور القارئ أن كاتب المقال قد خانه ترتيب الحروف، وهو يقصد (ثورة)على نسق العزف السائد في هذه الأيام، وربما لأن الخطأ يصادف بعض الهوي لدي البعض، أو لأن الخطأ ينسجم مع صدر العنوان، ولكن لا يوجد خطأ وهى (ثروة) والثَّرْوَة في اللغة: كثرة العَدَد من الناس والمال يقال ثَرْوة رجالٍ وثَرْوة مالٍ، وفي الحديث “ما بعث الله نبيّاً بعد لوط إِلا في ثَرْوَةٍ من قومه”، الثروة العدد الكثير، وثَرْوةٌ من رجال وثَرْوَة من مال أَي كثير.
نعم خدعوك فقالوا ثروة فقد صدعونا بقولهم : إن شباب الأمة هم ثروتها الحقيقية، خدعوك فقالوا إن الشعوب هم أغني ثروات الأمم، خدعوك فقالوا إن البشر هم أغلى ما نملك، هكذا قالوا في كل دولنا العربية لا استثني أحدا حتي تلك التي قفزت لتحصد للمواطن من رحم الغرب سعادة، هكذا قالوا وعلى العكس فعلوا، وعلى مدي عقود ممتدة مرت، وهذه الكلمات الرنانة، والمصطلحات الفضفاضة، والعبارات الموسيقية التي تخرج تتراقص على شفاه بعض المسئولين، تجد بعض الصدى لدي بعض من أصابهم الوهن من فرط الوهم.
نعم كل خططنا العربية الطويلة، والمتوسطة والقصيرة في مداها، الضعيفة في مدادها، تحدثنا عن البشر وعن تنميتهم، وعن رعايتهم، وعن حمايتهم وعن تعليمهم، وعن صحتهم، وعن تيجان العدالة الاجتماعية المرصعة فوق الرؤوس.
فإذا أخرجنا تلك الخطط إلى حيز الفعل، وجدناها أحباراً رديئة على أوراق رخيصة، سرعان ما جفت واحتفت ملامحها. نعم تبخرت في هوائنا الملوث وامتزجت به دخانا أسودا يعانق سماءنا الملبدة بالغيوم، نعاود الاطلاع على خططنا فنجد أرقاما ضخمة ومليارات لا تحصى، وإذا تعمقنا في تلك الأرقام المرصودة للحماية، ورعاية تلك الثروة المكنونة وجدناها في معظمها رواتب هشة، لا تكاد تكفي ضروريات الحياة، وما خصص منها للتنمية الفعلية وهو القليل، أنفق على غير المراد، ووفق الهوى على دورات تدريبية في غالبيتها، وهمية أو خالية المضمون، أو لا تصب في التنمية، ويقدمها أفراد غير أكفاء، لأفراد غير راغبين، نعم هناك النذر القليل من الأموال المتبقي للإنفاق فعلا على التنمية الحقيقية تعليما وصحة وتطويراً وتعديل مسار؛ ليوكب البشر تطورات الحياة؛ وليلحقوا بقطار سوق العمل المنطلق بسرعة، ولكن للأسف إما أصبح هذا القليل حبيس الأوراق في أضابير البيروقراطية المقيتة، سرعان ما يعود مع نهاية الميزانية؛ ليصبح أرقاما في حضن أرقام، أو ينفق جله على غير المراد، أو تبتلعه ماكينة الإعلام والإعلان …
نعم هي كلمات جوفاء عن الثروة البشرية لا تراوح الأفواه بعيدة تماما عن الواقع، وإلا فليخبرنا أصحاب هذه الكلمات أية قيمة مضافة أضافتها تلك الثروة في أنهر الموازنات والميزانيات، أي عائد اجتهدت تلك الرؤوس المسئولة لتستخلصه من تلك الثروة المزعومة، وكم طرق مهد هؤلاء لهذه الثروة؛ لكي تسلكه حتي تصل إلى سوق العمل بكفاءة، وكم فرصة هيأتها؛ لكي يقتنصها الراغبون في حياة كريمة.
أما تقارير التنمية البشرية على الرغم من كل تحفظاتنا عليها تضعنا حيث الفعل لا حيث القول، تضعنا حيث نحن من إهمال وإهدار لهذه الثروة البشرية التي هي بالفعل أثمن ما يملك كل وطن، نعم إذا اردنا رؤية واضحة لقيمة تلك الثروة ومكانتها ودورها فلننظر بوضوح لتجربة اليابان، حيث لا موارد ولا ثروات طبيعية، اللهم إلا الثروة البشرية التي حولت كل الدمار قبل عقود إلى كل تنمية ونماء.
أما نحن لدينا كل كل شيء لدينا المياه، لدينا الأراضي الشاسعة، لدينا النفط، لدينا الثروة المعدنية…….. ولدينا فوق ذلك الثروة الحقيقة مئات الملايين من البشر …. ولكننا ما زلنا هنا حيث قيمة برميل المياه الغازية عشرات أضعاف برميل النفط، حيث الرمال البيضاء خاضنة للعبوات الناسفة ……لماذا؟ الإجابة واضحة؛ لأننا أهملنا العقول أهملنا الثروة البشرية، استثمرنا في الشجر والحجر وتركنا الأغلى، والأثمن، والأقوى، والأبقى وهم البشر.
تركناهم راغبين أو مرغمين، تركناهم بوعي أو بدون، تركناهم بإرادتنا أو بإرادة الآخرين، الخلاصة أننا تركناهم وراء خداع الثروة المادية الزائف، وراء الثروة البراقة في سراب الغرب الخادع.
لا نجاة لهذه الأمة إلا بالاستثمار الحقيقي في أغلى ما تملك، الاستثمار فيهم تعليما وصحة ورعاية شاملة، أولا وقبل كل شيء؛ لكي ننقذ ما بقي من هذه الثروة قبل فوات الأوان، فلا ينفع قصر ساكنوه من الجهلاء، ولا منتجع ساكنوه من المرضي، أهلا بهما مع مواطن صحيح سليم البنية قوي البنيان.
وأخير فإذا كانت محصلة هذا الاستثمار عجزا قريبا في الموازنات، فحتما هو الفائض الأقرب في كل نواحي الوطن.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط
الوسومأ.د/ عبدالرازق مختار م
شاهد أيضاً
تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”
أمل فرج أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …