واسيني الأعرج
المرأة موضوعة للكتابة الأدبية؟! تواجه الكتابة الروائيَّة العربيَّة معضلة حقيقيَّة تتعلَّق بموضوع واشتراطات حريَّة المرأة، التي يؤمن بها الكاتب، وضوابط المجتمع التي يفرضها عن طريق التقاليد المنغرسة في الناس والمحيط، وأحيانًا حتَّى في المؤسسات المديرة لشؤون الدولة. وقد تكون الضوابط دينيَّة مرتبطة جوهريًّا بتأويل ضيِّق للدِّين، أو بقراءة جزئيَّة لا تأخذ بعين الاعتبار لا أسباب النزول، ولا طبيعة العصر الذي نعيشه، في ظل غياب مفجع لأيِّ اجتهاد. أيّة امرأة إذن يستطيع النص الأدبي، والروائي تحديدًا توصيفها، والعمل عليها بشكل يدفع بالقارئ إلى مواجهة الأسئلة الوجوديَّة الصعبة.
مثلاً: كيف يمكن أن نكون وطنيين، وإنسانيين، ونجمّد أكثر من خمسين بالمئة من الطاقة الحيَّة في المجتمع فقط؛ لأنَّها نسويَّة؟ كيف يمكن أن نرهن مستقبل الأمة بمنع المرأة من العلم والثقافة والتكوين؟ أيّة ذرية صالحة تربيها الأم التي هي في علاقة بيولوجيَّة وعاطفيَّة وثقافيَّة من ابنها، أو ابنتها؟ كيف يمكن أن نجعل من الحبِّ قيمة متسامية في مجتمع مجفف من أيّة روحانيَّات، هو حق للمرأة كما للرجل؟ أيّة امرأة يمكنها أن تتحوَّل إلى مادة أدبيَّة، ووفق أيَّة مقاييس؟ القرويَّة الريفيَّة؟ المدينيَّة؟ العاقلة المتريثة والمتفاعلة مع كل ما يحيط بها؟ المجنونة؟ المتخلِّفة؟ المنغلقة؟ المتنوِّرة؟ وغيرها من الثنائيَّات الممكنة. طبعًا المشكلة في النهاية ليست في النموذج. كل نموذج له سياقه، ويمكنه أن يتحوَّل إلى مادة أدبيَّة وفنيَّة راقية ومدهشة. فعل الكتابة هو المحدد الأول والأخير. إيزميرالدا الجميلة أحبَّت كازيمودو الشديد القبح الخلقي، لكن فيكتور هيغو سبغ عليهما كلَّ القيم الإنسانيَّة.
المعضلة الكبرى في مواجهة موضوعة المرأة في الكتابة الروائيَّة العربيَّة هي: ما هي حدود الحريَّة التي يمتلكها الكاتب للذهاب بعيدًا، وبصدق باتجاه مشروعه الأدبي والروائي؟ وكيف يتمكَّن النصُّ الأدبيُّ من رسم تفاصيل النفس النسويَّة الداخليَّة، وقلقها غير المعلن، وصمتها في مجتمع يعتبرها، في الأغلب الأعم، جزءًا من المتاع العام، وليس كائنًا يملك كل الحق القانوني والإنساني للتجلّي والحياة؟، ما هي مساحة الحريَّة المقبولة اجتماعيًّا، وما هي الحدود المرسومة التي لا يجب تخطِّيها؟ وما هي قدرة الكاتب على تخطِّي الحواجز، وتجاوز المسموح به رسميًّا؟ فهو يكتب نصًّا ينصت للحقيقة الإبداعيَّة والإنسانيَّة التي قد تتناقض مع ما ترسمه المؤسسة الرسميَّة. أحيانًا تكون مؤسسة الدولة أكثر تسامحًا، وتقدّمًا من المجتمع نفسها.
الكتابة ليست استجابة للمؤسسة كيفما كانت، ولكنَّها رؤية حرَّة، وقراءة ديناميَّة للمجتمع. على النصِّ أن يظهر المرأة الافتراضيَّة المتخطيَّة للتقاليد البالية، والمنتصرة للحق والعلم والحرية كقيمة، والمبشرة أيضًا بمجمع أجمل وأكثر عدالة وإنصاتًا لداخلها وشجنها. المرأة العربيَّة في النصِّ الأدبيِّ موجودة داخل مثلث من الضغوطات الصعبة والقاسية. ضلعه الأول الكاتب الحالم الذي يتعامل إمَّا مع امرأة افتراضيَّة، لا علاقة لها بالواقع الموضوعي. ينسج عالمًا حالمًا وأحيانًا جميلاً، لكن الوضع كما يتجلَّى اجتماعيًّا بجعل من هذه الصورة حالة لا تتخطَّى عتبة الافتراض، أو يتعامل مع امرأة جاهزة كما تريدها مختلف المؤسسات الاجتماعيَّة والدينيَّة والسياسيَّة. ضلعه الثاني المؤسسات الاجتماعيَّة ومنظومة التقاليد التي تعتبر المرأة شأنها الخاص، وهي التي تحدد المسبقات الصالحة وغير الصالحة والتي كثيرًا ما تقف الانتحارات، وجرائم الشرف التي تجد مبرراتها الكبيرة في مثل هذه الأوضاع. الضلع الثالث هو المؤسسة الرسميَّة التي لها ضوابطها، وقوانينها، وهوامشها الممكنة في مجال الحرية، وهي مَن يتحكَّم في هوامشها. هذه المؤسسة، لا تُحدِّد فقط صورة المرأة النموذجيَّة، ولكن أيضًا صورة النص النموذجي في علاقته بالمرأة. هذه الزوايا الثلاث تُحدِّد في النهاية نموذج المرأة كما يتجلَّى أدبيًّا. كل خروج عن هذه الزوايا تجعل النص الأدبي عرضة للمصادرة والمنع. كلّ المؤسسات الضاغطة تتحوَّل إلى موانع كلما تعلّق الأمر بموضوعة المرأة.
للأسف لم تتطور رؤية المجتمعات العربيَّة في هذا الموضوع إلاَّ قليلاً. ما تزال تتتصرَّف كأنَّها المالك الأوحد للحقيقة، وتنسى أننا في مجتمعات أخرى، وإنسانيات جديدة لها ثقافتها ومقتضياتها. هناك مشكل حقيقي، وليس افتراضيَّا. لا توجد امرأة واحدة وفق نموذج ذهني مسبق. في المرأة الواحدة اختراقات إنسانيَّة كثيرة، وتناقضات متعددة، على الكتابة الأدبيَّة، والروائيَّة تحديدًا، أن تتعمقها، تستدعيها فنيًّا تفاديًا لأي تسطيح وسهولة. المرأة ليست فقط موضوعة كبيرة وحياديَّة، ولكنَّها حالة استثنائيَّة يمكنها أن تختزل المجتمع بكل نوره وظلامه، عقده وهزائمه، نجاحاته وإخفاقاته. الرواية خاصة، والمساحات الأدبيَّة والفنيَّة عمومًا، توفر هذه الفرص وهذه اللحظات الحيَّة في الكتابة والحياة.