في عام 2009 شرفت بالمشاركة في مؤتمر للتعليم الالكتروني نظمته جامعة حلب، بالتعاون مع الجمعية العلمية للمعلوماتية بسوريا الحبيبة، وفي أثناء المؤتمر أجريت حواراً للفضائية السورية، ومن جملة ما أتذكر من ذلك الحوار سؤالا للمذيع: عن واقع تعليمنا العربي، وأتذكر أن إجابتي كانت في هذا السياق: أنني للتو عائد من رحلة عمل في إحدى الجامعات العريقة بالمملكة العربية السعودية، استمرت لسنوات، وها أنا اليوم في سوريا، وقد زرت بعض مؤسسات التعليم في بعض البلدان العربية الأخرى، وأستطيع أن أقول: إن كل البلدان العربية على الرغم من تفاوت في بعض الإمكانات إلا أن واقعها التعليمي واحد، لا اختلاف فيه فالفروق تكاد تكون طفيفة، والنواتج في غالبتها ضعيفة، والمحصلة أننا هنا في هذا المكان المتأخر الذي وضعنا أنفسنا فيه. نعم قد يصدمنا ما يرد إلينا بين الحين والآخر من تقارير تضعنا في ذيل الأمم في سلم التعليم، ولكن الواقع يشير إلى صدق ذلك، وفي كل الدول العربية لا استثني أحدا حتي تلك الدول التي تدعي التطور، وتقرر أن تحجب طلابها عن الدراسة في دول أخرى مماثلة، هي دول تعليمها يتطور في الشكل بعيدا عن المضمون، تتطور في الآلة بعيدا عن العقول، تتطور في كثافة القاعات بعيدا عن ازدحام الأفكار، تتطور في لغة المتحدث الغربية، بعديا عن لغتنا العربية العريقة، تتطور في كم الميزانية بعيدا عن كيف المحتوى، وفي المجمل تتطور في الشكل بعيدا عن المضمون. والسؤال الملح ما هي المعوقات الحقيقة التي تعوق تطورنا الحقيقي؟ تطور العمق، تطور المضمون، تطور الكيف. أتذكر أنني منذ فترة طالعت دراسة أجريت قبل ربع قرن عن معوقات تطوير التعليم، وللأسف الشديد يبدو أنها هي هي ذات المعوقات على الرغم من بعد السنوات. ومن جملة هذه المعوقات التي ذكرتها تلك الدراسة: – القصور في توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة للوفاء بالتطوير الحقيقي- حيث إن التمويل من المحددات الرئيسة التي تقرر اتجاهات السياسة التعليمية. – إهدار التجارب الناجحة التي تمت أثناء تطبيق الاستراتيجيات السابقة للتعليم خاصة المناهج وطرق التدريس والتقويم وغير ذلك. – لم تستطع السياسات التعليمية السابقة ربط استراتيجية التعليم بخطة زمنية محددة بإمكانات مادية حقيقية ودور الجهات المنفذة، وربط كل ذلك بالخبرات والجهود السابقة في تطوير التعليم. – لم تستطع السياسات التعليمية السابقة سد الفجوة الكبيرة بين الطلب الشعبي المتزايد على التعليم، وقدرة الأجهزة التعليمية على الاستجابة لهذا الطلب العادل كما تنص كافة الدساتير. – عدم استقرار السياسة التعليمية، والتسرع في تطبيق بعض القرارات دون الالتزام بتجريبها وتقويمها قبل تعميمها. – لم تستطع السياسات التعليمية المتتالية الاستفادة من وضع تصور موحد لأهداف التعليم، أو الاتفاق على أولويات تحقيق هذه الأهداف، ولم تحاول السياسات التالية استكمالها والبناء عليها، بل قد نجد وكأنها تبدأ من الصفر. – ضعف المشاركة الشعبية والمحلية وذوي الخبرة وأصحاب الرأي في وضع السياسة التعليمية، وقد نتج عن ذلك عدم وجود مناخ مناسب يعمل على صياغة سياسة تعليمية تربوية سليمة. – عدم الربط بين سياسة التعليم والسياسة العامة للدول حيث إن معظم قوانين التعليم ترتبط بشخص الوزير، ونتج عن ذلك سرعة إجراء بعض التعديلات أو الإلغاء. – لم تستطع السياسات التعليمية المتتالية توفير متطلبات الزيادة السكانية من إنشاء مباني مدرسية جديدة، وفصول ومعلمين وتجهيزات ووسائل ومعدات وغير ذلك، حتي تراكمت المشكلات ولم تستطع سياسة أي وزير تعليم أن تحل هذه المشكلات. – كان لدي المسئولين عن وضع السياسة التعليمية الجرأة على تعميم البرامج الإصلاحية والتي قد تقوم على آراء شخصية وأحكام ذاتية، قبل التجريب. – التركيز في كل إصلاح مزعوم على الأعراض دون الوصول إلى الأسباب الأصيلة لمشكلات المجتمع التي تنعكس على التعليم، وفي ذلك مضيعة للجهد والوقت والمال. – كثيرا ما تأخذ السياسات التعليمية أسلوبا لتطوير التعليم بطرية التجزئة حيث تركز على عناصر، وتهمل أخرى، مع أن التعليم منظومة متكاملة. – العلاقة بين الخطاب السياسي وترجمته إلى واقع في أغلب الأحيان علاقة شكلية، حيث إن كثيرا من استراتيجيات تطوير التعليم، وتوصيات المؤتمرات واللجان هي توصيات معادة ومكررة، ولكنها لا توضح الأسباب والعوامل التي أدت إلى تراكم الخلل في التعليم وإلى تكرار نفس الصياغات دون تحقيق بعض النتائج. – المؤسسات التعليمية قليلة الاستخدام لتكنولوجيا المعلومات إذا ما قورنت بالمؤسسات المجتمعية والاقتصادية الأخرى. ولكي نتفادى كل هذه المعوقات الحقيقة والواقعية والتي نشاهدها كل يوم، ينبغي أن يكون التعليم هو المشروع الأول والأهم لكل الأمة، وبجوار هذا المشروع ينبغي أن تتأخر كل المشروعات. نعم المشروع الأول والأهم لكل الأمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بداية من قمة هرم السلطة في كل الدول العربية، مرورا بكل التنفيذيين، والمشرعين، ورؤوس الأموال، ومنصات الإعلام، وحتي كل مواطن من مواطني هذه الأمة الراغبة في التقدم. أبدا لن يأتي تطوير بالكلام، لن يأتي تطوير بالمشاعر، لن يأتي تطوير بالرغبة، لن يأتي تطوير بالخطب العصماء. فنحن عندما نرغب في عمل مشروعات: نضع الخطط، ونرصد الأموال، ونبدأ بالتنفيذ، ونتابع ، ونذهب للافتتاح، ونحصد ثمار المشروع. والتعليم أيضا ينبغي أن يكون كذلك، ليس كلاما ولا خطابات ولا شعارات، ولا أمنيات، ولكن قرار حقيقي يتبعه خطة، يليها آليات للتنفيذ، مدعومة بميزانيات محددة ومعلومة، ثم تنفيذ دقيق، ومتابعة متواصلة، ورقابة مستمرة، وتطوير لا ينقطع، ومن ثم ننتظر الحصاد. أية أمة تعليمها في ذيل الأمم هي أمة ليست ناجحة، مهما تقدمت في كافة المجالات؛ لأنه سوف يكون تقدمها خالياً من أهم مقومات البقاء والاستمرار والتطور وهو التعليم.
أ.د/ عبدالرازق مختار محمود
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط
الوسومأ.د/ عبدالرازق مختار محمود
شاهد أيضاً
كيف نحمي البيئة من التلوث؟
بقلم رحمة سعيد متابعة دكتور علاء ثابت مسلم إن البيئة هي عنصر أساسي من عناصر …