بقلم: واسيني الأعرج
ليس ما حدث يوم السبت الماضي في مطعم لو سيناكل Le Cenacle في ترومبلاي (فرنسا) Tremblay-en-France غريباً، حينما رفض صاحب المطعم أن يستجيب لطلب الأكل لفتاتين فرنسيتين، لأنهما مسلمتان، ولأن الإسلام كما قال هو الإرهاب والإرهاب هو الإسلام، في حركة شديدة الغباوة والبؤس الذي وصل إليه قطاع من المجتمع الفرنسي بسبب الخطاب العنصري المستشري.
وقد سمع الملايين من رواد الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المحاورة المهينة. فعلٌ مثل هذا، يحتاج إلى قراءة ليس فقط للحاضر ولكن لما يمكن أن ينتظر المسلمين في فرنسا. يبين إلى أي حد أصبح الفرنسي المحترم للقانون، يمارس توحشاً ذاتياً مسنداً الى ممارسات سياسية رسمية وغير رسمية، شديدة القسوة ضد المسلمين، مع خلط مقصود بين الإسلام والإرهاب. القانون الذي كان يعاقب على اللاسامية والعنصرية لمجرد لتعبيرات صغيرة وأحياناً غير مقصودة، أصبح غير معني بالأمر، لا يعاقب حتى الوزراء وبعض المسؤولين الذين لا يخفون عنصريتهم المقيتة.
الأخطر من هذا كله، هناك حالة تماهٍ بين خطابات اليمين المتطرف، واليمين التقليدي، وجزء من الخطاب الاشتراكي الذي لم يعد راضياً عليه حتى بعض الاشتراكيين أنفسهم، لأنهم يلاحظون يومياً أنه يتم قتل فرنسا المتعددة الثقافات والإنسانيات، وفرنسا الحق والقانون، استجابة لحاجات انتخابية صغيرة. حادثة المطعم العنصرية لم تأت منعزلة، ولكن في سياق عداوة وخلط مقصود ضد كل ما هو مسلم وعربي.
أما مسألة «البوركيني» فمضحكة وقد ضخمت لدرجة تدخل رئيس الحكومة مانويل فالس، مؤيداً للقرارات التي اتخذتها بعض البلديات بشكل وحشي، ضد مرتديات «البوركيني»، مع أنها مضادة للحريات الفردية ما دامت غير مناهضة للقانون الفرنسي ولا يوجد ما يمنع ارتداءها. كل هذا يرتكز أساساً على الأعمال الإرهابية الأخيرة، في عملية منسوجة بشكل خطير، تجعل من كل مسلم إرهابياً محتملاً. خطوة أخرى في درجات التصعيد التي جعلت من الفعل العنصري أمراً عادياً. هذه الممارسات التي تقع خارج الدستور الفرنسي وقوانين الجمهورية، شديدة الخطورة على النسيج المجتمعي الفرنسي. إذ يمكننا أن نتصور ببساطة انتقال قانون الغاب من الفعل الفردي، إلى الفعل الجماعي الشديد الخطورة، والانتقام الجماعي من مواطنين يعيشون دينهم بإنسانية في ظل قوانين الجمهورية. ويفتح فصل جديد لم تتعلم منه الإنسانية، كثيراً. لا تهم النتائج ما دام كل شيء متداخلاً بقصدية، بين الإسلام والإرهاب، ليبدأ تيه بلا نهاية كما في الحالة اليهودية التي لم يمر عليها قرن حيث تمت فيها مطاردة الناس بناء على انتسابهم لدين، وتم تسليمهم للنازية بفرح وسعادة للتخلص من دين كان ثقيلاً على المعادين للسامية، على الرغم من أن اليهود كانوا السند الاقتصادي لفرنسا وأوروبا ودورهم الثقافي لم يكن هيناً، قبل استقرار الصهيونية كحركة عنصرية.
كأن البشرية لا تتعلم أبداً لا من تاريخها البشري العام، ولا من تاريخها الوطني. ما يحدث اليوم من تجاوزات غير منفصل عن سلسلة تحولات السنوات الأخيرة التي مست المجتمع الفرنسي بقوة، على الصعيد الرسمي والشعبي أيضاً. ولولا أن فرنسا بلد مؤسسات تناصر القانون في النهاية، لكان الوضع أخطر. مسخرة البوركيني، بدل أن تعالج ضمن منظومة القوانين الوطنية، حولت المسألة إلى شيء يقع خارج القانون إلى درجة تم فيها إهمال المشكلات الفرنسية الكبرى التي تلغّم المجتمع في مكوناته الأساسية. وبدل أن تعمل الحكومة على التخفيف من ضغوطاتها الخطيرة، والانتصار للقانون ضد البلديات المتوحشة التي اتخذت قرارات خطيرة لا يسمح بها القانون إلا وفق حالات خاصة تتعلق بالإخلال بالنظام العام، سارت في مسلك البلديات اللاقانوني نفسه. مما اضطر مجلس الدولة يوم 26 آب/أغسطس 2016، إلى التدخل وتعليق منع البوركيني من طرف الحكماء، واعتبار القرارات التي اتخذتها بلديات نيس وفيلنوف لوفي، غير قانونية. هذه الممارسات واللغة العنصرية السهلة هي التي تؤثث فراش اليمين المتطرف الذي خلق مساحة أصبح كل واحد يريد احتلالها بما في ذلك بعض الجمهوريين كساركوزي ورئيس الحكومة السابق فيون الذي جاء خطابه الأخير في صلب الفعل العنصري. بينما تظل المشكلات الفرنسية قائمة، وأرقامها المخيفة لم تتحرك إلا باتجاه المزيد من الانهيار: مشكلات البطالة المتزايدة، التي تجاوزت الستة ملايين، المديونية التي تجاوزت بكثير 2000 مليار وترهن مستقبل فرنسا ومشاريعها، ارتفاع الضرائب التي ترهق البيوت الفرنسية المتوسطة، الإرهاب الذي تحتاج محاربته إلى سياسة متبصرة وهبة اجتماعية كلية، بوصفه واحداً من أخطر أمراض العصر.
ما يحدث اليوم في فرنسا تحديداً مخيف وشديد الخطورة إلى حد كبير. فقد تمّ إطلاق وحش العنصرية من عقاله، وأصبح يركض كما يريد. وكل القيم التي دافع عنها الفرنسيون، وجعلت من فرنسا أرض اللجوء واستقبال المنفيين، بلاد حقوق الإنسان، انتفت أو كادت وفسحت الطريق على اتساعه أمام الوحش العنصري، من خلال تحرير لغته، الحاضنة الأساسية التي تحمل وترمي في سوق المجتمع ظاهرة شديدة الخطورة مثل هذه. أصبــحت هــذه اللــغة، لغة الكثير من المسؤولين على مستوى عال.
وبدأ اللعب على الفرنسي المتوسط الشديد الحساسية مما حدث من أعمال إرهابية إجرامية في فرنسا، لدرجة أن أصبح كل مسلم عرضة لتهمة الإرهاب. مع أننا نعرف أن المسلم العادي يعيش حياته في المجتمع الفرنسي بشكل طبيعي مثله مثل غيره من مكونات المجتمع. وبدل التركيز إعلامياً على هذا النوع من المسلم الذي يشكل 99،99٪ المنسجم والمحافظ على تماسك المجتمع، يتم العمل والتركيز على النوع الإجرامي والأكثر انحطاطاً، وفق خطاب ساذج لا يقوم بأي جهد لفهم الظاهرة، مستسلماً في الوقت نفسه للجاذبية الإعلامية بالخصوص في هذه الفترة التي يتم التحضير فيها للانتخابات الرئاسية 2017.
أين يختلف اليوم خطاب اليمين المتطرف وجمهوريي ساركوزي وفرانسوا فيون الذي يرى نفسه وريثاً ديغولياً؟ جميعهم يجرمون المسلم، ويحملونه مآسي الخيبات الهيكلية للنظام، جميعهم يحصرون الهوية في الميراث الديني المسيحي الذي تتحدد من خلاله الخصوصية، وكأن الفرنسي الآتي من ديانات أخرى لا وجود له، ومقصى من هذه المعادلة، وسيظل غريباً في مجتمع فيه من دمه وعرقه ومنجزه وحبه أيضاً.
الوسومواسيني الأعرج
شاهد أيضاً
تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”
أمل فرج أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …