بقلم / واسيني الأعرج
الكاتب العظيم ليس من يعظِّم نفسه لا يحتاج الأمر إلى كبير تفكير. الكاتب العظيم ليس من يعظِّم نفسه في كل الأوقات، ويغدق عليها النعوت المرضية التي تخرج إلى الملأ هيستيريا شديدة الخطورة أكثر مما تنبيء عن عبقرية. ويعضّ على الصحن الذي أكل منه متّهمًا الآخرين، كلّ الآخرين، بأنهم لا يفهمون عبقريته الفذة، لدرجة أن يملي شروطه على وهْمٍ يصنع منه حقيقة. حقيقته المرضية. لكن العظيم في النهاية من تعليه نصوصه ومواقفه وخبرته الحياتية الغنية وتضحيته تجاه الآخرين ويفرح لكل بذرة أمل. الهزات العنيفة التي عاشها ويعيشها العالم العربي، أكدت مرة أخرى أن الفنان عمومًا، والكاتب بالخصوص، هو جزء من هذه العملية المركبة وغير واضحة الملامح، يغيّر ويتغيّر بتحولاتها وتناقضاتها أيضًا. لا شيء في مثل هذه التحولات يسير بشكل مستقيم. فقد وجد الكاتب العربي نفسه، فجأة، مضطرًا إلى الاندغام في حركيتها، وتحديد موقفه من كل ما يصطحب هذه التغيرات العميقة التي لا يفهمها الفنان دائمًا بسهولة، إذ عليه أن يجد مسالكه الصحيحة والدقيقة، وزمنه المُحكم، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، في الحالتين ستكون الخسارات فادحة، في عالم عربي لم يعد كما كان، ولن يكون.
يتغيّر بسرعة مجنونة في كل الاتجاهات لا أحد يجزم إذا ما كانت هي الصحيحة، داخل عالم أوسع هو تحت تأثيراته وضغوطه. عالم أوسع من الخريطة العربية التي حدثت في عمقها اختلالات وتمزقات وشروخ كثيرة وشديدة العنف. عالم غامض على الكاتب تفكيكه وفهمه بآليات قد تكون جديدة لا تتوفر لدى كل الكتاب. ولكن من قال: إن الكاتب لا يتحرك الا داخل عالم واضح وفي متناول الفهم السهل؟ الكاتب العظيم هو من يدخل هذه التناقضات المرتبكة والمربكة ويصنع منها عوالمه الفنية والأدبية، متخطيًا لحظة المبهم والتردد التي كثيرًا ما تحكمت في الكثير من النصوص. ليس مهمًا أن يبدو غريبًا وربما منفيًا داخل مساحات العزلة، لأن التاريخ وحده هو من يعطي الحق من عدمه لأطروحاته وتصوراته. لا يعني ذلك الجمود والتصلب ومراوحة المكان بحجة عدم الفهم أو التغيير. الثورات العربية، كيفما كان رأينا فيها، كانت في بداياتها على الأقل، حاملة لكل الاحتمالات العظيمة، والأكثر سوءًا أيضًا. بحسب نجاح التجربة من عدمها. الكتابة الحقّة تتخطى أقدار الحاضر الصعب والا كيف تكون هذه الأخيرة ناقدة وحية لو سارت في نفس المسالك المهيمنة والسهلة.
الروائي الفرنسي الكبير إميل زولا، اتخذ موقفًا صارمًا من اللا سامية التي سلطت آلتها الجهنمية على الضابط الفرنسي دريفوس. ووضعته في الواجهة بوصفه خائنًا متهمًا بالتخابر مع الضباط الألمان. واستطاع زولا أن يدافع عنه وينقذه في النهاية من إعدام أكيد. وتحمّل المضايقات الكثيرة التي وصلت حتى التهديد بالحبس مما أضطره إلى الهرب إلى لندن. حتى أن بعض الباحثين يشكك في موت زولا طبيعيًا، ويفترض أنه قتل بسبب موقفه من قضايا سياسية كانت مهيمنة ساعتها.
الشيء نفسه يمكن أن يقال عن المفكر الفرنسي روجي غارودي الذي عندما كتب عن أوهام الصهيونية جرّ وراءه عداء اللوبيات اليهودية المتطرفة في أوروبا كلها. وبغض النظر عن صدق رؤيته من عدمها، فقد ذهب وراء قناعاته حتى النهاية. وكان ثمن ذلك التشريد والعزلة والمنفى والمحو. حتى موته مرّ في صمت مقصود. كل وسائل الإعلام الغربية سارت في نفس الطريق: الإهمال والصمت، إذ اعتبرت موت غارودي لا حدث. لهذا ليس كاتبًا كل من يعلن على الأسطح؟ وفي وسائل التواصل الاجتماعي، أنه كذلك ويشتم كل من لا يروق له. الكتابة ليست هيستيريا وتثبت في الذات، فهي نبل وشهامة وشجاعة، وهي صفات أصبحت اليوم نادرة.
الوسومواسيني الأعرج
شاهد أيضاً
المحاكمات (التأديبات) الكنسية … منظور ارثوذكسى
كمال زاخرالخميس 19 ديسمبر 2024 البيان الذى القاه ابينا الأسقف الأنبا ميخائيل اسقف حلوان بشأن …