الأربعاء , نوفمبر 20 2024
واسيني الأعرج
الكاتب والروائى العالمى واسينى الأعرج

تركيا، الانقلابات المحتملة؟

شيء ما شديد الأهمية، حدث في تركيا، غير محاولة الانقلاب الفاشلة، الظاهرة التي شاهد فصولها الجميع، أو تابعوها على القنوات العربية والعالمية: إعادة اختبار الطاقة الشعبية الخلاقة الكامنة، في مواجهة زمن ولى وانتهى، يعاد بعثه اليوم من جديد.
حل مشكلات الديمقراطية بواسطة العنف العسكري أو الانقلابات، لم يعد يجدي نفعا، بل سيبدو منعزلا إذ لا شيء يبرره في مجتمع ديمقراطي له خياراته التي وافق عليها. فقد أعطى الشعب التركي درسا للساسة المتصارعين، وللعسكر أيضا.
ما حصل من تحاوزات لا يمكن التسامح معها والصمت عنها ومن حق أية دولة أن تواجهها بصرامة وفقا لمقتضيات القانون. الشعب في النهاية، أدى ما عليه وأثبت أن الديمقراطية ليست كلمات منتخبة، متراصة ولكنها ممارسة فعلية تٌختبر في الممارسة السياسية والشارع، والاندراج في عمق ضمانات الدستور والمطالبة بها. هذه الثقافة الشعبية الخفية، تستدعي بالضرورة مقابلا مشابها لها.
أي النظام الذي عليه ان يضمن أساسيات الديمقراطية التي جاءت به ليس فقط الحصول على الأغلبية المريحة التي ضمنت له إدارة السلطة وتسييرها وفق برنامجه، ولكن أيضا ضمان حقوق الأقليات، وتعهدات الدولة من الناحية الدولية. لأن محاولة الانقلاب الفاشلة، أي انقلاب، كيفما كانت نتائجها، تجعل البلاد كلها في مهب العاصفة، وتغير نظمها في الحكم ومجمل العلاقات بين الجيش ومؤسسات الدولة، وتفرض بالضرورة شكوكا في كل شيء. فقد أصبحت تركيا هشة بعد المحاولة، تدور في فلك غير مضمون شبيه بالمرحلة التي سبقت الثورات العربية حيث خسرت كل المؤسسات قوتها الاجتماعية، وحتى العسكرية، الأمر الذي أدخل أغلبية البلدان العربية في دائرة الفوضى وحالة اللادولة.
بالعودة إلى ما تقوله خطابات الرئيس أردوغان أو مؤسساته، من أنه سيصغي للشارع فيما يتعلق بالاعدامات العسكرية المحتملة بعد أن تمّ تجييشه بهذا الاتجاه، في بلد التزم دوليا بتعليقها، ومن خلال الصورة التي ظهر بها ضباط وجنرالات المؤسسة العسكرية، وعلى وجوههم كدمات اللكمات والجراحات، ومن خلال العزل المنظم لكل من شُمَّت فيه رائحة التعاطف مع الانقلابيين حتى أصبحوا يعدون بالآلاف، يتضح جليا أن أردوغان ذاهب نحو تطبيق ما يراه رادعا لكل من كانوا وراء المحاولة. الصورة محزنة مهما كانت الأسباب التي تبررها أمام الرأي العام المحلي أو العالمي. فهي تثبت في النهاية أن شيئا كبيرا تكسر بعنف، يصعب اليوم ترميمه، وكأن ظهر تركيا أصبح عاريا، وأن العمود الفقري لمؤسستها العسكرية أصبح غير موجود. قد يبدو الأمر انتصارا على الانقلابيين ويفتح شهية أسْلمة المؤسسة العسكرية نهائيا مقابل مؤسسة علمانيا استمرت قرنا بكامله منذ التغييرات الجذرية الكمالية، لكنه في النهاية هو إنهاك وموت لجهاز كان قويا في مواجهة اللحظات الأكثر صعوبة التي عاشتها تركيا. هذه صورة غير مرئية اليوم، في ظل نشوة الانتصار، لكن المخاطر المستقبلية القريبة جدا، كبيرة وغير مأمونة. لهذا تبدو التحديات شديدة الخطورة ويمكن أن تؤدي بتركيا إلى قلاقل لا أحد يضمن نتائجها. بل يمكنها أن تدخل البلد في دوامة اللاستقرار والاغتيالات المتلاحقة ضد كل ما يرمز للسلطة. محاولة الانقلاب الفاشلة دمرت البنية العسكرية، لكن إعدام الانقلابيين سيكون خطأ أفدح وإجهازا على ما تبقى. إعدام وفصل وعزل آلاف الضباط والقضاة والأكاديميين الذين حصنوا بلدهم في حقبة الأزمات الصعبة بجهودهم العسكرية العلمية والثقافية التي جعلت من تركيا نموذجا يُحتذَى، في فترة جد وجيزة، سيقود تركيا إلى نشوء جيش آخر ينتظر فرصته ليس فقط للإجهاز على الديمقراطية، ولكن أيضا على حرق كل ما يحيل إلى السلطة، ناهيك عن مواقع الجمرات المدفونة حاليا تحت الرماد، كمشكلة الأكراد والأقليات الإثنية والدينية والمعارضة التي وقفت ضد الانقلاب دون أن تمنح أردوغان شيكا على بياض، يضاف إلى ذلك الملايين من ضحايا الأزمة الاقتصادية التي مست تركيا بعنف وشدة.
الانقلابات العسكرية مرفوضة، وعمل فاشل ولم تعد مجدية حتى شعبيا، بغض النظر عن الشعارات الرنانة التي تحملها. لكن سيخطئ أردوغان إذا دخل في اللعبة الموازية، وظن أن هذه فرصته للتخلص نهائيا من شبح العسكر العلماني، أعداء الأمس، لأنه سيعيد إنتاج ما حدث بشكل مقلوب. لا أحد يضمن نتائجه.
لهذا، فالتبصر وتطبيق القانون بشكل صارم وإنساني أيضا، وترميم الكسر الكبير الذي حدث في المجتمع التركي، أمر ضروري في ظل الأوضاع الدولية التي نعيشها اليوم. تحتاج تركيا التي حملت في عمقها قرونا من الغطرسة الإمبراطورية والاصغاء للقوة فقط، أن تربي ثقافة أخرى. ثقافة مستوحاة مما يحدث من حولها لأنه يُنظر لها اليوم عربيا وإسلاميا كواحدة من النماذج الناجحة للتطور. ولهذا، فأشد ما يُخشى، أن يضمحل هذا النموذج الذي استطاع في زمن محدود، على الرغم من كل التجاوزات، أن يحترم العلمانية، والمؤسسة العسكرية، والميراث الكمالي الذي كان وراء تركيا الحديثة.
إذا لم تدرك المؤسسة الحاكمة هذا، فالمستقبل التركي سيكون شديد الغموض، لا تحله لا الإعدامات المحتملة للمتورطين في محاولة الانقلاب الأخيرة، ولا مقبرة الخونة التي ينوي الرئيس أردوغان إنشاءها عقابا على الخيانة، فهذا سيكون جرحا خطيرا وإيذانا بدكتاتورية ترتسم في الآفاق، وسيأتي بعد سنوات أو قرون، حيث لا يبقى إلا التاريخ، من يجعل من هذه المقبرة مزارا، ترحما على مجموعة وقفت ضد نظام ثيوقراطي ودكتاتوري كان في طور التكوين. وسيكون عمليا أردوغان هو من خلق بونتيون un panthéon أو المقبرة الرمز، للانقلابيين الذين رفضهم الشعب نفسه بنزوله إلى الشارع، فأنقذ البلاد والديمقراطية ومؤسسة الرئاسة أيضا.
استمرار تجربة أردوغان مرهون بفهم الضرورات والأولويات وعلى رأسها التنبه لمواقع الأزمات المؤجلة وعلى رأسها، مخلفات الأزمة الاقتصادية المشكلة الكردية التي تنتظر حلا فعليا يراعي حقوق الخصوصية والمواطنة.
نعم، أشياء كثيرة تحققت ومنها الحقوق اللغوية والتعليمية، لكن أشياء كثيرة لم تجد آذانا صاغية لها إلا القصف والمدافع والتقتيل، مع تجارب الأمم بينت أن الحلول العسكرية لا تعطي شيئا سوى المزيد من الدمار وإنهاك الدولة، يضاف إلى هذه الرهانات الكبيرة، رهان إعادة بناء الدولة في تعدديتها وغناها وليس في أحاديتها وتصوراتها الإيديولوجية الضيقة.

شاهد أيضاً

تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”

أمل فرج  أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.