سلة مهملات تتسع لضغينة الكتابة! عالم الكتابة، عالمٌ جميلٌ وساحرٌ، يمنح فرصًا خاصّةً لحياة أخرى، تكاد تكون موازية، غير تلك التي يعيشها جميع الناس، حياة بها الفرح الذي يُحسد المرء عليه، وبها الظلمة القاسية أيضًا التي لا يخرج الكثير من الفنانين من أنفاقها بسلام.
همنجواي انتحر بعد أن وجَّه بندقيَّته نحو فمه، وهو في قمَّة شهرته. الموسيقي والكاتب بوريس فيان، تأزَّم لدرجة مقاربة الجنون قبل أن ينتهي بسكتة قلبية في عزِّ عرض الفيلم المقتبس من روايته: (سأجيئكم لأبصق على قبوركم). فيرجينيا وولف انتحرت غرقًا بعد أن عاشت تخييليًّا في عالم شديد الارتباك.
الشهرة لا تعني إستقرار الحياة لدى الفنان، بل بالعكس، هي حالة تماوج مستمر، يؤكِّد هذا أن فعل الكتابة ليس أمرًا بسيطًا ولا سهلاً، فهو شبكة شديدة التعقيد، الكتابة مثل أية ظاهرة اجتماعيَّة ونفسيَّة وثقافيَّة مركَّبة، يلتبس فيها الذاتي بالموضوعي، الظاهر بالخفي، الباطني بالأكثر ظهورًا. من هنا شدة حساسيتها وتناقضها الشكلي أو الأعمق فهي تفضح عمق صاحبها، بوصفها مساحة مفتوحة، بقدر ما يكثر فيها المحبُّون الذين يأنسون للكتابة وللفعل الإبداعي الخلاَّق، تنشأ في حضنها أيضًا الضَّغائن الأكثر مرضيّة. لستَ في حاجة إلى أن تعادي الناس ليعادوك، يمكن أن يخرجوا لك من ظل الكلمات، ويسلطوا عليك كل الوحوش التي فيهم. الكتابة بهذا الفهم هي صراع مستميت ضد التوحش المجاني، بوسيلة واحدة ووحيدة هي الكتابة نفسها، لأنَّك عندما تلتفت وراءك وقتها لن ترى إلاَّ رماد جيش من المهزومين وغبار معاركهم الخاسرة، لستَ أنتَ من هزمهم لكن الكتابة نفسها هي التي تفعل فعلها بلا استئذان. هي من يعلي وينزل، ويفضح الموهوب من غيره، المريض العصابي، من المنصت إلى أعماقه وأعماق حروفه في هدأة وسكينة. هي التي تجعل الحاقد يتكلَّم بالرُّغم من نفسه، وتعريه حيث يريد أن يغطي قروحه ومأساته الداخليَّة، لا سلاح في الكتابة إلاَّ الكتابة، فهي لا تستشير أحدًا، لا غرابة في النهاية، الضَّغينة رفيقة النجاح. طبعًا الكُتَّاب ليسوا متشابهين، هناك مجموعة تشتغل في الظل وفي السكينة، تنحت من الحياة وقسوتها حبها ورهاناتها الكبيرة ومنجزها، وتحاول جاهدة أن لا تلتفت إلى الوراء، وقتها ثمين وتخاف من تسرُّبه. وهناك مجموعة ثانية شغلها الشَّاغل ما يفعله الآخرون، تتصيدهم في حياتهم وجملهم، انتقامها أعمى لا من الكاتب الذي تفصله عنها سنوات ضوئيَّة في نمط الحياة وإبداعها، ولا من الإبداع لأنَّه لا يجاريها في أمِّيتها، ولكن من نفسها لأنَّها تتعرَّى كليًّا ويبدو واضحًا القبح والتشوّه الذي تتأسَّس عليه، والعفن الذي تنام فيه، ومرض المخ العصابي الذي يستهلك وقته في الحلقات السريَّة للمهزومين، وفي المطاردة بدل الكتابة، وتتشبث بانتهازيَّة سامية، بتصيُّد كل من يمنحها سلطة المناصب التي توفر لها وجودا ما اذا اخطأت منصب المدير تتعرَّى أكثر كي لا تخطئ منصب السكرتير الصغير، أو أيَّة سلطة توهمها بالقوة. تعيش داخل العداوات المتحالفة للوقوف ضدّ أي صوت يخرج من دائرة الغشاوة التكرارية. جوهر الفن أن لا يتشابه المبدعون في التخصص الواحد..هذا هو الأمر الطبيعي، لأن المبدع الحقيقي في اللحظة التي ينفصل فيها إبداعه عن دائرة التكرار يكون قد حقق وجوده.
صحيح أن حاجات الأجيال تختلف من حيث القيم الإبداعية، لكن الجيلية يمكنها أن تكون أيضًا لحظة هزيمة وقناعًا مهزومًا. مأساة الجيلية كثيرًا ما تدخل صنفًا من المبدعين في نقاشات ومهاترات لا شيء يُنتظر من ورائها. سؤال يتكرر دائمًا في معظم محترفات الكتابة، التي أشرفتُ عليها عربيًّا ودوليًّا: ماذا نفعل تجاه العداوات المجَّانيَّة ضد ما نكتبه؟ أجيب بشكل يكاد يرميني في عمق العبث والسخرية. اشتروا سلة مهملات تتسع لكل ما تسمعونه. الكتابة سباق ماراثون كما يقول موراكامي، فيها الكثير من الأبطال المتنافسين، ولا يصل في النهاية إلاَّ مجموعة صغيرة يتبادلون الأدوار باستمرار إلى أن ينشأ الذي يشترك معهم في السباق بقوة أكثر ولا يلتفت إلى الوراء. التجاوز ليس صراخًا وليس شتائم وليس تنظيرًا، لكنه قوة إبداعيَّة خلَّاقة، إما متوفرة أو غائبة.
أصرَّ على الكتَّاب المثابرين والمشاركين في المحترف، أنَّ أهمَّ شيء يقومون به هو عدم الالتفات لما يقوله الآخرون، كثرة الالتفات لا تفيد، كلَّما جرينا اتَّسعت المسافات، كلَّما كتبنا زادت الشقَّة الفاصلة بين المبدع ومحترف الشتيمة. لا كاتب يمكنه أن يمنع كاتبًا من البروز إلاَّ إذا كان هذا الأخير فاشلاً. لا قوة تكسر إمكانيَّة الحلم. أن تختار مسلك الكتابة عليك أن تفترض سلفًا عداوة أصحاب نفس «الكار». لكن هناك المناهض لك بالوسيط الإبداعي، وهناك حلقة الندَّابين وصنَّاع الضغينة، الذين لا شغل لهم إلاَّ الترصُّد، وكأنَّ وجودك الإبداعي أصبح معوِّقًا لهم، والإعاقة مثل بقية الأمراض، تكبر إذا تمَّ تجاهلها، وتخف وتنطفئ إذا وجدت مَن يهتم بها. الكتابة ككل الفنون، جميلة وكثيرًا ما تكون ظالمة. الحظ أيضًا جزء من العمليَّة الإبداعيَّة. لكن القدرة الخلَّاقة والموهبة، سيدةُ كل شيء في النهاية.
الوسومواسيني الأعرج
شاهد أيضاً
تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”
أمل فرج أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …