الأربعاء , نوفمبر 20 2024
ريهام زاهر

المتسولة .

كانت الصبية الصغيرة حنان تجلس كل يوم علي جانب الطريق بملابسها البالية و منظرها الرث الذي يثير الشفقة ..تتسول ، كانت تتسول كل شئ و اي شئ… كانت تتسول لقمة تسد بها جوع جسدها ، كما كانت تتسول نظرة عطف او شفقة من عين اي مارٍ بها لتسد بها جوع روحها و قلبها ، كانت جائعة لكل شئ و لأي شئ…
حاولت في مرة تذكر امها او اباها فلم تستطع ، فهي ولدت يتيمة وربتها قريبة لها في احد الاحياء الفقيرة جدا ..و هي التي أسمتها حنان لعل الناس تحنو عليها..و عندما بدأت تكبر علمتها قريبتها التسول ، و زجت بها في الشارع للبحث عن رزقها..
لم تكن حنان متذمرة قانطة ، لكنها كانت يائسة تعيسة … لم تفكر في الهروب لحياة اخري فهي كانت تؤمن ان هذا هو قدرها و نصيبها و عليها ان ترضي به ، كانت روحها هشة مجروحة مخدوشة … تتمني فقط لمسة عطف او نظرة تعاطف… فكانت تتوسلهم و تتسولهم مع لقمتها !
و علي الجانب الآخر من الطريق ، يوجد محل تجارة يملكه رجل ثري تقي يخاف الله
كان التاجر يري حنان يومياً و يرثي لحالها.. كان يشعر بمرارتها و مأساتها.. فقد كان يملك قلباً ذهبياً يشعر بكل من حوله ، كان يرسل لها النقود و الطعام مع مرسال بدون ان تعرف من هو …لم يكن يريد ان يعلن شخصه إلا في الوقت المناسب…. و كان يرسل معه ايضاً خطاب فيه كلمات تشجيع و محبة ..
و كانت حنان قد تعلمت مبادئ القراءة في صغرها قبل ان تنزل الشوارع للتسول ..و قد يكون هذا هو الشئ الوحيد الذي قد تشكر عليه قريبتها …
كانت تجمع الخطابات المرسلة اليها و تحتفظ بها لتقرأها يومياً فتطمئن.. هناك من يهتم لأمرها..و يتقبلها.. و يعدها بالأفضل دائما..
حتي ان كانت لا تراه و لا تعرفه شخصياً .. لكنها موقنة انه موجود … من خلال رسائله و عطاياه…
بدأت حنان بعد الكثير و الكثير من العطايا و الرسائل … توقن انها تحتاج لأن تتعرف و تعرف من هو الراسل … و بدأت تفكر مع نفسها :
هل هو جاري الشاب الوسيم الذي يخفق قلبي عندما يمر جانبي و اتمني منه مجرد نظرة ؟ بالتأكيد ليس هو … انه حتي لا يلاحظ وجودي .. بل يلاحظه و يتقزز من قذارتي… لا اتذكر انه اعطاني شيئاً البتة ..و لا حتي ابتسامة صغيرة تروي قلبي الظمآن !
هل هي السيدة الطيبة المسنة التي امسك يدها و هي تعبر الطريق كل فترة لتذهب للسوق لتشتري احتياجتها بعد ان سافر كل ابنائها و تركوها وحيدة ؟ لا اعتقد فهي ارملة وحيدة ..فكيف ترسل مرسال إليّ و لماذا ؟ غير انها لا تستطيع الكتابة لان يدها دائما مرتعشة بسبب المرض…
هل هي قريبتي التي تربيت في بيتها ؟ بالتأكيد ليست هي… فهي لا تحبني و لا تشعرني بأية اهمية… هي فقط تريد النقود التي اتسولها !
هل هو الشاب الذي يتسول في الشارع المجاور ؟ لطالما عاكسني بأسلوبه الفظ و وعدني بوعود أعلم انها زائفة ؟ اعلم انه يكسب اكثر مني في التسول بكثير …و لكن لا ..ليس هو… ليس اسلوبه ..لا اعتقد ان لديه هذه المشاعر الراقية…
حدسي يحدثني بأنه شخص مختلف … يحس بي … يهتم لامري… اكثر من مجرد عطف علي متسولة فقيرة…
أيمكن ان يكون هو أبي ؟ أيمكن ان يكون لم يمت…و لكنه تركني لما ولدت.. و الآن عائد نادم و يريد تعويضي ؟؟
ام هو حبيب ؟ يحبني من بعيد ؟ و سيعوضني عن كل ما مضي ؟؟
دب الامل في قلبها الرقيق…و لكن سرعان ما تكاثفت سحب اليأس علي عقلها ، فضحكت بسخرية … و هل يحب أحد متسولة فقيرة تقتات من الشارع… منظرها قذر و رائحتها كريهة ؟؟
انه مجرد حلم جميل …محسن نبيل ارسلته لي عناية السماء … لا املك سوي ان اتقبل عطاياه و اتعزي برسائله … و لا اتطلع لاكثر من ذلك …
و تمر الايام …..
و الصبية الصغيرة بدأت تكبر قليلاً … و قد كانت ملامح وجهها الرقيق تعبر عن معاناة و احتياج ممتزجان ببعض الأمل …
كانت قد تعودت تماماً علي حياتها كمتسولة…. بل اصبحت محترفة ..و تدرب المتسولين علي اساليب جديدة للتسول !
و علي الرغم من معانتها … كان قلبها حنوناً .. كانت تعطف علي الصغار الفقراء ..و تعطيهم من العطايا التي يرسلها لها المرسال – بدون علم قريبتها- و تحكي لهم عن ذلك المحسن… ذلك الحلم … التي باتت تحلم به… الحب و الامان و الطمأنينة التي تتسولها في كل من حولها …
و في يومٍ … مميز جداً في حياة حنان -المفتقدة للحنان – رفعت عيناها و رأته … انه التاجر الثري الذي تراه و تري محلات تجارته علي الجانب الآخر من الطريق… انه ذلك البخيل – كما حدثت نفسها – الذي يراها جالسة تتسول و لم يعطف عليها بشئ بالرغم من ثرائه… انه البعيد الساكن وسط غناه و قصوره و امواله و لا يتطلع علي الفقراء امثالنا… انه الظالم الذي يعطي لمن يريد و يمنع عن من يريد… لماذا جاء الآن ؟ هكذا كانت حنان تحدث نفسها سارحة في افكارها ..و هي تنظر اليه نظرة جوفاء…
في حين كان ينظر اليها نظرة حانية متفحصة و كأنه يقرأ افكارها …
ابتسم لها و قال : هل تريدين ان تحصلي علي وظيفة لديّ ؟
فؤجئت بسؤاله و ردت : وظيفة ؟ أتسخر مني يا سيدي ؟ أنا غير متعلمة…بالكاد استطيع ان القراءة.
– أعلم ذلك…أعلم انكِ تستطيعين القراءة.. فأنتِ تقرأين رسائلي !
تفرست في وجهه مذهولة..و بداخلها ألف تساؤل : أنت هو ؟ لماذا ؟ و كيف ؟ ولماذا انا ؟ و لماذا الآن ؟ و…. و…. ؟؟؟؟؟
قفزت من مكانها و وقفت امامه متلعثمة : انني… انت… لقد … هل… لماذا ؟!!!
ابتسم التاجر لها : أعلم انك تشعرين بأنني قد تأخرت قليلاً… و لكني كنت أعدِّك وألاحظك …لم اتركك … رأيتك و انتِ تتمسكين برسائلي… و رأيتك وانتِ تعطفين علي الصغار.. سمعتك و انتِ تحكين لهم عني …
انني…بالرغم من ثرائي .. لكن محبتي و بهجتي و راحة قلبي الحقيقية في رؤية الآخرين فرحين …احب الاطفال جداً … اتمني ان تكون لديّ ابنة مثلك تؤنسني..اتمني ان تعيشي معي كأبنة لها كيان و قيمة.. وسط اخوتها…نعم.. فبيتي ملئ من البنين و البنات .. يعملون معي في تجارتي و يعيشون تحت سقفي… اعوضهم عن كل ما عانوه .
حنان… انا احبك… احب قلبك البرئ الذي لم يتشوه بالحقد و الغل و الكراهية… احب بساطتك و محبتك للخير و للغير … أحب حتي ضعفك ….و بالرغم من منظرك فأنا لا اتقزز منك .. لاني لا انظر للمظهر الخارجي قط… و لا اريد منك مقابل فعلاً … رسائلي و وعودي التي ارسلتها لكِ كلها حقيقية… اريدك مطمئنة مهما حدث.
و اتمني فقط ان تقبلي دعوتي بالعمل و العيش معي في بيتي كأبٍ … وسط اخوتك … إن اردتِ ، فلكِ كل الاختيار .
و أعدك بأنك – إن وافقتي – لن تلجأي للتسول مرة اخري… ستشعرين بالشبع ..بل و تفيضين علي من حولك… لن تتوسلي أو تتسولي … انتِ من الآن حرة…
انتِ محبوبة جداً

ريهام زاهر
ريهام زاهر

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.