الجمعة , نوفمبر 22 2024

ماجدة سيدهم تكتب : ” طالع “

أعلم أن دمي الذي أحبه ، دمي الذي لفرحي ونشاطي وعشقي ،

دمي الذي امتد بطول أيام لي  ورافق  كل تفاصيل النضج والتهور، كل المشاوير والمخاطر والقصائد  والطموحات  والكوابيس.. وذاق معي غصة الهزيمة ووخزة الوحدة  وسـُمّر معي بشكة الرعب ، دمي الذي ضخ في عروقي كل الدفء والعنفوان  ولازمني حتى الاعتصار ..حتى لهفة الإنتظار ووجع الغياب ..

 دمي الذي علمني الرقص والسباحة في دماء  “حبيب”  حين ضم  الروح إليه في عناق وحشي ، دمي الذي يشبه نزفي ونزقي ،الذي  وحده يشهد لي أني أنا هي بعينها.. يعلن عليّ الآن التمرد علانية ، ورغبته  الملحة والمكثفة  والتى باتت تلاحقني مطلع كل نهار وطريق  ليكرر بجدية كم ضاق الجموح به حيز نحول الوريد  ..طموحاته فاقت  حدود الشريان .. دمي ينشد الانفجار مني  ،يسعى  للامتداد بالخروج عني ..

 دمي الذي مني  وكنت لا زلت صغيرة ظل يغازلني ..يرواغ  شهوة الطرق للعناق المباغت ، أقول هذا بعد كل مرة أنجو فيها من موت مؤكد لا غش فيه  “طالعي ” لحتى بت أراه بوضوح على الجانب الآخر من الطريق  كمن يتأهب ويرقب جل تلك اللحظة  الفارقة  بل وأشعر بالألفة عدا بعض الشحوب الذي يبدو بالوجنتين وغلاله تشف المشهد الصاعد إلى عالم الماوراء الأعظم ..

في كل الأحوال  أرفض جدا  ولا أصدقها  النهايات بأشكالها ، ربما هذا ما  يفسر لي عدم الرغبة في إتمام أية عمل للنهاية حتى لو كان لعبة  أو  كأس ماء لا أشربه كاملا ،فلا أكمل فيلما حتى نهايته أو كتابا حتى صفحته الأخيرة  أو صحنا لأخر مذاقه ، لا أنهي المهاتفة بغير مايوحي بالتواصل مجددا  ، لا أتواجد في حفلات العزاء  رفضا لفكرة نحيب النهاية ،  بل وأحرص دوما الاّ أكون آخر المنصرفين  في أي  تجمع ما ، كثيرا ما أذيل

مقالاتي بعبارة ” لم ينته بعد ..أو ولن ينتهي ..” ، وأختم المقاطع كلها بنقطتين وليس نقطة واحدة  ،  دائما ما أترك خلفي ما يوحي بالعودة مرة أخرى  وأن هناك استمرارية وبدايات متجددة ..

هذا ما دفعني لإعتناق فكرة الامتداد الحي للإنسان ، لذا آمنت ومن قبل تكويني  بمطلق الحب، مادفعني أيضا منذ سنوات للمضي جهدا  وبحثا  في الرغبة الجدية  للتبرع بكل الممكن من أعضائي في حالة الإنتقال  طبيعيا أو بمباغتة الطريق  وسعيا فخورا ومخلصا مني  في الحصول على بطاقة  ” متبرع بالأعضاء ” ، فليس ثمة أجمل وأرقى أن تمتد حياة المرء منا  في حياة آخر يحتاج لعضو ما منا حتى  سريان الدم ..

 ليس من اللائق بحال ولا يحتمله عقل  نبيل أن  ينتهي الإنسان –ذاك الكائن المضيء -كما سائر  الكائنات والهوام،  ففي هذا سخف كبير وعدم احترام لله ذاته  ، الإنسان –والذي هو أنا  – كائن أبدي  حتى لو أكدنا على  فكرة  الانتقال وهي الأكثر رقيا  وإنسانية ، فهي أيضا لا تـُفعل في مجتمعاتنا بالشكل الحضاري  لتظل بدورها محض لفظة متداولة إلى حد كبير، بينما تتجلى عبقرية الله في عودة الجسد للتراب  ليبقى  موصولا بالحياة  حين يصبح الجسد  منبتا عبقريا  لبذار  الحنطة وثمار العنب  والرمان والتفاحات والزيتون من جديد ، هكذا تتأكد حقيقة الامتداد الحي  للإنسان حتى لو تباعدت الروح مؤقتا عن الجسد   ..

حين سألني الله ووضع أمامي كل الإختيارت  المتاحة لأنتقي الأنسب   منها ، ورغم ولعى بالحياة الممتدة  ما وجدت جاذبية في موت الفراش أو مضاجعة الألام السخيفة  أو في مغازلة شيخوخة حين تستبدلني بغيري و تسكن ملامحي ولا أعرفني  فيما بعد  و طرق كثيرة أخرى ، غير أني  ضحكت واخترت نبوءتي بالمباغتة على الطريق ،وعلى مايبدو أنها طريقة  الله المثلى  لي فهو يعلم  كم أنا مراوغة وكسولة..لا بأس ..لكن ترى هل سيتحقق فينا طالعنا وكنا لازلنا صغارا  ، حين كنا  نركض ونمد أكفنا  الصغيرة  تحت عدسة المحنكات المثقلة بالخبرة  ودراسة الخطوط  وفهم نجمات المجرة ، تلك  النبوءات التي تطوق  دروبنا بالمنحدارت والمرتفعات والتوقعات المحتملة ..هل سيكون لنا طالعنا ..؟

..سأكتب  قصديتي  الأولى إذن  حين  أعانق فراقي .. فغاية الأمر أن رؤية  دمائي للمرة الأولى والأخيرة بشغاف هذا الامتداد المتنامي هو  مشهد خرافي يستحق التصفيق الحاد ، لذا أدعوكم أيها الأصدقاء  أن تتجرعوا معا كؤوس المحبة المشتهاة، أن تتعانقوا بالولع  الذي أبتغيه بل وأطيلوا العناق جدا ، تصافحوا ..تصالحوا  أضحكوا وتبادلوا الأنخاب والحلوى وضجوا الساحات بالرقص، اقرعوا الطبول بالتهليل  والنداءات الملونة  كي يظل دمي  بالفرح المثالي ينزف ..ينزف ويمتد ..

سأكتب قصديتي الأولى لكم أيها المارون  صدفة هنا ، هذا هو دمي  الذي للصيحة والبدء الجديد ، خذوه كلكم  ، ولتلتهم أصابعكم  من خمره  الآسر ،ارسموا بجدر الهواء والملامح  جل التغييرالمنشود  ،  شيدوا أوتاد الضوء  لتنمو فيكم كل الأفكار السعيدة ،اخترعوا الإيقاعات غير المألوفة ، اطلقوا جدائل طموحاتكم  لتصافح النجاح  الذي لكم ،اعيدوا تنسيق  الهطول صاعدا ، دقوا بالأوتار تكوينات وأشعارا وقزحيات  تذهل الله وتبارك أجيالا جديدة ، مدوا عنق السنابل  بالتفتح  وعلموا الزرافات كيف بأعناقها تحلق وتطير، وكيف بلا خوف  تربض الدجاجات في حضن الثعالب  وللأفاعي أن تحمي موسيقا الخراف ..وكيف ينمو من هذا الأحمر كل هذا الفهم وكل هذا الإخضرار ..هكذ تعود للقداسة عريها وطهارتها حين تحولون تراث البكاء إلى  مسرات راسخة،  وحين يرتدي مشهد المغادرة  ثوب الأناقة  في مسلك إنساني رفيع  ..

 خذوا من دمي  وتعلموا الضحك بصوت يفوق  القهقهات ،فأنا لا أحب غير الضحك وعلاقات العشق الأبدية ،لاتبكوا ولا تتأسفوا ،  فغاية الفرح أن ينضج وضوح  االله  الحي في الإنسان  الحي ..لذا لن يـُغفر لنا الإيمان بالموت أوالفناء ..

تذكروا الكائنات المضيئة  لا تتساوي مع الهوام ..هذا  ما أطلعني به طالعي  ..

ولن ينتهي ..

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.