الجمعة , نوفمبر 22 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

العارية

مدحت موريس 

لم تكن تعرف للخوف معنى منذ طفولتها وصباها ، فقد تربت ونشأت فى احضان القرية الذى يعرف سكانها بعضهم البعض جيداً فسكان القرية جميعاً هم حراس بعضهم لبعض يشكلون الحماية والحصانة لذويهم من اى خطر قادم وهذا الخطر – ان اتى – فهو يأتى من خارج القرية …

من الغرباء الذين قليلاً ما تطأ اقدامهم تراب القرية الآمنة. لم يكن الخوف يعرف طريقه اليها حتى لو اجبرتها الظروف – وهى الصبية التى تشكلت انوثتها – ان تعود متأخرة الى دارها فى ظلام الليل فستجد الف عين تحرسها حتى تعود الى الدار سالمة…فهكذا نشأت كما نشأ اهل القرية اخوة وجيران واصدقاء…

وحتى لو لم يعرفوا بعضهم البعض بالاسم فيكفى ان يعرفوا ان هذا من بيت فلان او ان هذه من بيت علان وفى النهاية تتعدد البيوت ومهما تعددت تظل العلاقة علاقة اخوة وجيرة وصداقة فتلك هى القرية واخلاقها وقوانينها واعرافها. يسود السلام فى القرية لسنوات طويلة على الرغم من بعض المعتقدات السلبية التى يراها اهل المدن كمثل ان يتلخص شرف الرجل – اى رجل – فى جسد امرأة قد تكون اخته او امه او زوجته فاذا اخطأ هذا الجسد او حتى قيل عنه انه اخطأ فقد الرجل شرفه!!!!

لا يهم ان يكون الرجل لصاً او قاتلاً مثلاً فشرفه لن يتأثر بمثل هذه الامور التافهة لكن شرفه قد يزول تماماً او كما يقولون يتلوث بالطين اذا ما لاكت الالسنة سيرة احدى سيدات اسرته. تربت سعاد على مثل هذه المعتقدات وتعايشت معها وكانت تتصرف بتلقائية وبساطة فكانت محتشمة فى كل شىء فى ملابسها ومشيتها فى طريقة كلامها وهيئتها….وكانت بكل بساطتها تجمع فى اناء واحد ما بين ارضائها لله وارضائها لعادات مجتمعها حتى ولو كانت جائرة.

تتزوج سعاد وتصير اماً وكأى فتاة قروية يصير همها الاول وربما الاوحد هو تربية اولادها كما يجب ان تكون التربية…وهكذا سارت بها الايام حتى اتى اليوم الذى عرفت فيه معنى الخوف وهى داخل قريتها بل وهى داخل دارها. يدور الزمان ويأتى اليوم الذى تعرف فيه سعاد معنى الخوف، الخوف الذى – كما يقولون – يذل اعناق الرجال اتى الى سعاد السيدة التى تجاوزت مرحلة الانوثة وعاشت وتعمقت فى مرحلة الشيخوخة اتى اليها بصورة همجية ووحشية…وعلى الرغم من خوفها الا انها فى اشد حالات الخوف والرعب لم تكن تتخيل ان يحدث لها ماحدث. اصوات الغوغاء والدهماء تقترب من الدار وهم الذين هددوا وتوعدوا من قبل…اتراهم قادمون الآن لينفذوا تهديدهم ووعيدهم؟..

يتسرب الخوف بداخلها لكنها على الرغم من ذلك تشعر بقدر من الطمأنينة فهم فى النهاية جيرانها واصدقائها وعلى رأى المثل مصارين البطن بتتعارك….كان لا يزال بداخلها قدر من امان الماضى الذى تربت ونشأت عليه. وقررت ان تفتح الباب لهم وتصورت انهم فى النهاية سيعاتبونها عتاباً قاسياً سيبقى فى النهاية عتاب الاصدقاء او الجيران.

يهتز باب الدار بقوة تحت عنف الايدى التى تطرقة بغليل وعصبية…يفتح الزوج الباب فتتلقفه الايدى وتكيل له الضربات واللكمات فيسقط المسكين مغشياً عليه ولا احد يعلم هل من قوة الضربات ام من هول الصدمة فى الجيران والاصدقاء. تنظر سعاد الى زوجها الملقى على الارض وتنظر للمعتدين بنظرة هى مزيج من الدهشة والعتاب…..نظرت اليهم وهى آمنة فهى تدرك جيداً انه لا يمكن لرجل حقيقى من رجال القرية ان يمس امرأة. فالرجولة ونخوتها تمنع اى رجل ان يستخدم قوته فى التعامل مع امرأة تلك هى العادات الموروثة التى نشأوا وتربوا عليها ، لكن لان الزمن اختلف وبالاحرى انحدر ولم يعد للرجولة الحقيقية معيار سوى شارب يختال تحت الانف…فوجئت سعاد بلطمة قوية على وجهها

كانت كفيلة بان تدفعها نحو الجدار لترتطم به وتسقط على الارض ، حاولت ان تنهض ووجدت اربعة ايادى تمتد اليها فاستندت اليها فاذا بتلك الايادى تدفعها دفعاً لتقع ثانياً ثم تسحبها من جسدها وتسحلها لمسافة على الارض حتى خارج الدار وهناك بدأت المرحلة الثانية من السحل على ارض غير ممهدة مملوءة بالحصى لتزيد من اوجاعها …ثم فجأة يقفز الشيطان قفزة نوعية ويمسح من تاريخ القرية او من تاريخ رجالها اى قيمة للرجولة….فيجرد الشيطان المرأة العجوز من ملابسها مستخدماً ايادى اشباه الرجال الذين ملأهم التشفى فى ان تمضى المرأة والام العجوز بقية عمرها وهى مفضوحة – وما اقسى هذا اللفظ فى القرية – بعد تجريدها من ملابسها وجرجرتها عارية فى شوارعها…..

فجأة وجدت جلباباً فى يدها لا تعرف من اعطاها اياه ….ارتدته ودموع مختلطة تملأ وجهها ….دموع اوجاع جسدها ، دموع صدمتها فيمن ظنهتهم ذويها ثم دموع الخزى الذى شعرته بعد ان رأى الجميع عريها وكشف الكل سترها وصارت بلغة اهل القرية مفضوحة.

هربت لا تدرى الى اين لكنها ابتعدت عن مسرح الاحداث وانزوت وانطوت لايام فى محاولة لنسيان ما لا يمكن نسيانه….استدعت كل ما نشأت وتربت عليه فلم تجد فيه ما حدث لها على العكس فقد تربت ومعها اهل القرية على مفهوم كلمة الستر ….استدعت فى خيالها الاناء الذى مزجت فيه بين ما فعلته ارضاءاً لله وما فعلته ارضاءاً للمجتمع الذى عاشت وتعيش فيه ….اغمضت عينيها فى الم وركعت لتصلى فى خشوع وتشكو من اهانوها وفضحوها الى الله…

فتحت اعينها المملوءة بالدموع فرأت سيدها على الصليب وتذكرت من لطموه وعروه وعيروه….ولاول مرة ترتسم ابتسامة واهنة على وجهها رغم الدموع التى تنساب وتحفر طرقاً على الوجه المجعد ،صمتت لبرهة ثم نهضت وهى تشعر بقوة تسرى فى جسدها….مضت خارجاً متجهة لقسم الشرطة لم تشعر بالعيون التى ترقبها وهى تراها لاول مرة بعد الاحداث المؤلمة ،

مضت وظهرت امام الجميع وزال شعورها بانها مفضوحة – على العكس – شعرت انها مستورة ليس بالجلباب البسيط الذى ارتدته بل انه ستر من نوع آخر انه ستر الله لها فقد شعرت انها شاركته الآلام التى لم يستحقها فقد لطموها وعروها وعيروها كما فعلوا معه تماماً….انسكبت القوة بداخلها وواصلت طريقها نحو قسم الشرطة ، وهناك واجهتهم واتهمتهم امام الجميع فى قوة وعدم انكسار اما هم وامام صلابتها و نظراتها القوية

ورغم ملابسهم التى تدثروا بها فقد شعروا انهم عرايا ….عرايا من الرجولة…عرايا من الانسانية …تصوروا انهم اذلوها وحطموها فاذ بها تمتلك قوة يجهلون مصدره، لم يعد احد يشفق على سعاد فهى ليست بالذليلة بل هى التى صارت تشفق على اشباه الرجال لكونهم اشباه رجال . لم يعد احد فى القرية يصف سعاد بالمرأة العارية….بل انهم جميعاً يودون لو حذفت تلك الكلمة من قاموس اللغة فبذكرها يعلم الجميع ان المقصود بالعارية هى تلك القرية التى تعرت من الاخلاق فصارت هى العارية الحقيقية.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.