الجمعة , ديسمبر 20 2024

** الشرف **

بقلم: بشري يونان
قصة حدثت بالفعل وتتكرر كثيرا في مصر وإن اختلفت بعض التفاصيل
المكان: محافظة السويس
ثمة اصدقاء يريدون ان يساعدوا اصدقائهم بانارة طريقهم، ولكنهن يسهمن باطفاء اي بصيص من النور ويتركوهن يهبطن الى منحدر سحيق. كانت “عزة” فارعة الجسم، هائلة الصدر، مشوهة الاسنان، لم تكن صديقة بمبي فحسب بل كانت اكثر من اخت لها. وقع كلماتها عليها كان دائما مؤثرا، وانسياب الحجج من فمها كانسياب طعم المكسرات او الكورن فلكس الامريكاني.
انجبت بمبي ابنتان سلمى وشذى .. عملت بمبي كممرضة لتساهم في اعالة اسرتها.. ولكن هل كانت بمبي اما حقيقية؟ او بالاحرى اما حكيمة؟ انها تعرف ان ابنتها سلمى كانت اكثر نحافة من شقيقتها التوأم، وكثيرا ما كانت تطرح على الدوام اسئلة مستحيلة، تريد ان تعرف السبب الذي يجعل جذور الشجر غائرة في التربة وليس فوقها.. وها هي سلمى قد قاربت السابعة عشرة من عمرها، لكنها لم تتغير ولم تتغير اسئلتها، ولم يقل فضولها.. فكرت تفكيرا عميقا وساورها القلق على ابنتها ذات الوجه المشابه للكتاب المفتوح، فكل ما كانت تشعر به من اصغر شعور كان يبدو على وجهها بجلاء. واذا لم تتمكن من اخفاء اشد العواطف تقييدا في مجتمعنا، فكيف يمكنها ان تطمئن عليها. بدت بمبي متكدرة وهذا دفع عزة زميلتها الى سؤالها:
– يبدو عليك الارق. اخبريني ما السبب لربما اقدر اساعدك؟
– ابنتي سلمى، احوالها صعبة.. اصبحت نحيفة مثل عصا.. احيانا اخالها وكأنه مسها مس.
ثم تنهدت بعمق وتابعت:
– هل تصدقينني لو قلت لك انها بالامس اندفعت الى امام موشكة ان تطرحني ارضا؟ .. اندفعت الى غرفتها وصفقت الباب في وجهي بعنف، ووضعت كرسيا امامه كي تحول دون دخولي.
– وما هو السبب؟
– انها تكثر من طلبات الخروج لمقابلة صديقاتها. وحين اكلمها تغضب وتثور.
– انها مرحلة صعبة، كما تعلمين.. فوران يتعرضن البنات له في سن المراهقة.
– وماذا افعل؟
– زوجيها اذا. ألم يتقدم اليها احد بعد.
– انت تحبينها اكثر من اي شئ اخر.
وانحدرت دمعة فوق خدها.
– الشباب الذين يصلحون للزواج قل عددهم هذه الايام. اريد ان اضمن مستقبلها. ولا اريدها ان تتعجل فتتزوج بمن لا يصلح.
– لكن فقط رد فعلها الاخير بخصوص “متعب” واصرارها على الزواج منه.
– هل ختنتيها؟
– لا، لم تختن حتى الان. يا للمصيبة! انه خطأك وستندمين عليه. ستضيعين منك ابنتك.
تقلصت معدتها وخفق قلبها وهي تقول:
– البنت كبرت وجاوزت سن الختان بكثير. انها ستتم السابعة عشرة الشهر القادم.
– أليس الختان افضل مما لا يحمد عقباه؟
– وهل الختان هو الذي يقينا من هذا؟
– لا، ولكنه سيساعد كثيرا. هل نعرف نحن اكثر من امهاتنا وجداتنا اللاتي اختتن؟
ودون ان تنتظر اجابة منها قالت:
– بالطبع لا.
بدت بمبي مستعدة للجدال ثم تلمظت بشفتيها متذمرة الى حد ما وقالت:
– ولماذا لا؟ هل كان في ايامهم ما نراه الان من تقدم؟
– نعم. لكن الحياة كانت افضل.
اومأت برأسها وان بدت غير مقتنعة.
تركت عزة صديقتها يساورها احساس بالخفة والنشاط من جهة، والهم والغم من جهة اخرى. الخفة والنشاط اذ ترى دبيب الحياة الذي يسرى في عروق بناتها اذ تراهن في سن الزواج، والهم والخوف على مستقبلهن.
ثمة امهات يردن من بناتهن ان يسرن في نفس الدرب الذي سلكنه، ان يؤدين نفس الممارسات، يأكلن نفس الطعام، يطهون بنفس الاسلوب، يعشن نفس الحياة. يرددن نفس الامثال. العادات والتقاليد في رأي بمبي مقدسة، موثوقة وثابتة لا تتغير، والاهم من هذا كله انها تمثل الحقيقة المطلقة التي لا يجب ان تناقش او يشك في مدى صدقها. ذهبت للمستشفى يدفعها الاحساس بالواجب وكأنها تخضع لارادة اقوى واسمى. انها مخلصة لبناتها، زهرات حياتها، مخلصة للمستقبل، وهي تتفانى في حب العادات وتعبدها، ورغم انها كانت تعمل عقلها وتتردد في عمل امور كثيرة الا انه في هذا الامر بالذات لا يجب التفكير ولا التردد. سوف تعيش الواقع وتترك تلك الفانتازيا الوهمية، فلا وجود لفتاة عاقلة في سن مراهقة، لا وجود لفتيات بريئات عفيفات بصراحة، لم يعدن بعد “قطيطاتها مغمضات الاعين”. لقد وعين اسرار الحياة، والحل لا يكون الا بما هو خارجي، بما درج عليه امهاتنا وجداتنا. انه الختان.

ومرت ايام
ايام
ايام
اتت سلمى ذلك اليوم الى امها تخبرها ان جارهم “متعب”، الذي يعمل في الورشة بالعقار المجاور، اخبرها انه يحبها، وانه يريد الزواج بها.
وضعت الام يدها على صدرها وشهقت مبتئسة، وهي تتأسف على حال ابنتها اذ تتزوج بميكانيكي وقالت:
– لن تتزوجي به، محال!
اجهشت سلمى بالبكاء.
ربتت على كتفيها وقالت:
– اسمعى! انت ما زلت بعد فتاة صغيرة. وانا حريصة على خياراتك في الزواج. كانت البنات الاصغر منك يتزوجن. لكن الظروف تغيرت ولا اريد ان تتزوجي بمن ينغص حياتك.
ولكن سلمى اندفعت الى امام موشكة ان تطرح امها ارضا، ودخلت غرفتها وصفقت الباب في عنف، ووضعت كرسيا امامه كي تحول دون دخولي.
– هنا تغير وجه بمبي.. قرعت الباب وقرعت.. اصخت السمع لصوت شهقات ابنتها المنتحبة.. ثم توقفت دون ان تتجرأ على قرع الباب.. ولبثتا سلمى وبمبي ننتظران على ذلك النحو انتظارا لا يعلم مداه الا الله، يصغي احدهما لانفاس الاخر، متسائلا عما يدور في فكره. ثم انصرفت بمبي كأنها لا تملك ما تقول.
تغير عقل الفتاة ولكن الى حين، لم يكن تغير دائم بل تقلب من يوم الى يوم. فثمة امر يخرج الفتاة من مرحلة الصبا حبها لشاب، او غيرتها من صديقاتها اللاتي يسبقنها في الزواج.
**
في المستشفى:
بدت الدكتورة “احلام” طويلة الوجه، بارزة الانف، ذات عينان حادتين، وان لاح عليهما التعب الارهاق، بدا لونهما لون الطقس العاصف، رماديتين، صارمتى النظرات من خلف النظارات، جعلتها تبدو كأستاذة جامعية او هذا ما ظنته بمبي.
قالت “عزة” بصوت يشبه هسيس الافعى:
– حسنا. الدكتورة “احلام” تقدم لك خدمة ستكونين ممتنة لها طوال العمر. انت تعرفين انها تضع نفسها تحت طائلة القانون لاجلك، وتخاطر بمستقبلها لمصلحة ابنتك وغيرها من الفتيات.
فافتر ثغرها عن انفراجة هي الاولى من نوعها. ولكنها لم تنبس بكلمة شكر على النحو الذي ارادته عزة. بل كانا الامر وكأنها قد ذكرتها بسر من اكثر الاسرار مدعاة للهم والغم.
هدأ الاعداد للعملية من اعصابها، مثلما هدأها الانهماك في عملها كممرضة على الدوام. رأت الطبيبة كما رأتها من قبل في حلمها وقد امسكت بمقصها البلوري. ولكنها ترددت وهمست في اذن صديقتها عزة:
– انا خائفة. البنت يحصل لها مكروه.
– اطمئني.
– لكن الا ترين انها خطرة؟
– ما يمكن ان تقوم به “الداية” الا تطمئنين ان قامت به طبيبه؟
– –
فكرت بمبي “بعض الامور قد لا تكون بتلك الخطورة التي يمكن ان نظنها احيانا. القلق امر طبيعي، لكن لا يجب ان يثنينا عن تنفيذ ما هو “من الشرع”.
– استعيذي بالله.
اخذت نفسا عميقا وتمتمت بدعاء سريع.
امسكت الطبيبة بالمشرط وما هي الا لحظات. المعدن بارد وصقيل، وبدت الوجوه حولها مطمئنة .. عضت الفتاة على شفتها السفلى ما ان مدت الطبيبة يدها وكانت توشك ان تنفجر صراخا، كأن شيئا لا يقدر بثمن يوشك ان يسرق منها. كانت بمبي ترقب بعينين واسعتين وقلب يخفق داخلها بصوت مسموع كأنه دوي طرقات مطرقة هائلة، وانفاسها تتلاحق. اما بالنسبة لسلمى فقد كان الامر يفوق احتمالها من الناحية العصبية.
**
في البيت:
نزفت سلمى فجأة بعد ساعتين من وصولها الى البيت، وعبثا كانت الجهود التي بذلت لايقاف النزيف. ادركت بمبي بعد فوات الاوان انها لم تكن تضمن المستقبل لبناتها، بل كانت تطيع صوت الهواجس فحسب. انها لم تسهم في ادخال الهدوء الى الاسرة، بل في بث سكون الموت في جسد ابنتها الغض، ونفث تراب الارض فى اوردتها الفتية.
فتحت سلمى عينيها المغلقتين وسط سكرات الموت، ونظرت حولها فرأت وجها ابيها وامها الملتاعين، كانت تسمع انين اختها التي اجريت لها نفس العملية من الغرفة المجاورة. وشعرت بحسرات وأسف في وجهيهما لا يحتمل. كانت بين الحين والاخر تصرخ صراخا مدويا.. صراخ انفصال الحياة من الحياة.. صراخ محبة البقاء .. صراخ قوة الشباب الغضة تصارع جفاء الموت غير المتناهي.
اما الاب والام فقد وقفا قانطين امام صراخ ابنتهما الضعيفة المنطرحة تحت جبارين: الموت والحياة، يصارع كل منهما في الامساك بابنتهما. وشعرت الام بغصة الموت ذاتها التي شعرت بها ابنتها. شعرت بمرارة تلك الكلمة التي لفظتها بالموافقة والان تندم عليها، ادركت بان ابنتها كانت بمثابة لؤلؤة جرفها الجزر اليها ولكنها طرحتها الى اعماق البحر ثانية. كانت زنبقة ما ان انبثقت من اكمام الحياة حتى دفعتها بيديها تحت اقدام الموت ليسحقها.
ظلت الفتاة محدقة بابيها وامها بعينين جامدتين لدقائق ثم تراخت أطرافها وهبطت.. نكست سلمى رأسها وابيض وجهها واسلمت روحها، وما من سلمى الان.
وقفت بمبي ذاهلة، فقد انفتحت روحها على عالم اخر. انه التقاء الموت بالحياة.. كانت لحظات مرعبة.. وهي الان تريد ان تهرب .. ان تمحو من ذاكرتها تلك اللحظات الرهيبة تماما مثلما بامكانها ان تضع الخل على السمك فتمحو رائحة النهر من زعانفه. العادات والعرف والتقاليد، هذه الثلاثة يمكنها ان تجعل حياتك قريبة من الجحيم او النعيم، اعتمادا على رؤيتك لها. ثمة امهات يردن ان يغلّفن بناتهن بحبهن، ولكنهن يفعلن ذلك بجنون. وكانت بمبي واحدة منهن. ارادت ان تحتويها فاضاعتها.
**
الوفاة:
وفي البيت تفحص مفتش الصحة المتوفاة. وبدى عليه الانزعاج وقد امسك بقلمها وهو يكتب التقرير الطبي:
– في هذه الحالة سوف نستدعي الشرطة.
اخذ الهلع ينتاب بمبي. وهي تقول:
– شرطة. لماذا؟ الامر قضاء من ربنا يا دكتور.
وسعل المفتش سعالا خفيفا وهو ينظر من طرف نظارته:
– البنت اصابها نزيف حاد. ولونها اصفر.
ارتسمت على شفتي بمبي ابتسامة استرضاء مدركة ان الامور تسوء وان الموقف ليس هينا.
– دعنا نهون الامر، لم يحصل اي ضرر ولا ضرورة لاستدعاء الشرطة. كانت عملية ازالة كيس دهني، وخرجت سليمة من المستشفى و..
كانت بمبي في تلك اللحظات كأنها تخوض في الوحل، وكلما حاولت ان تخرج تغرق بالاكثر فكفت عن الكلام. مدركة انها لم يبق لها سوى البوم صور لابنتها الراحلة تنظر اليها بذكرى مرارة بينما يعتصر الاسف روحها.
**
ولطالما انتابتها احلاما مزعجة. اذ ترى يد الطبيبة تمسك بالمقص البلوري.. ثم تسمع صرخات وترى جسد ابنتها مخضب بالدماء.. في احد الليالي كان الوقت يمر متثاقلا بالنسبة لبمبي.. جاءها شبح ابنتها، طيف.. سمه ما شئت. كان في وسعها ان تشتم رائحة ابنتها، وترى وجهها، عيناها. اجهشت بالبكاء ثم بكت كما لم تبكي من قبل. انه الغضب. افراز غدة الادريناين. الاحساس بالهبوط والصعود في الوقت نفسه. غضب اكتسح روحها كاعصار. الشئ التالي الذي فكرت فيه. انها واقفة على قمة وانه في وسعها ان تلامس النجوم. انها ارادت ان تضمن مستقبل ابنتها، وتحفظ شرفها. لم تنس تلك اللحظات ما حييت. انه الاحساس بالضعف، بانها من سلبت ابنتها الحياة. خفق قلبها خفقانا سريعا وشعرت انها تختنق.. اقتربت سلمى من والدتها .. لاحظت بمبي خصلة من شعرها ابنتها متدلية من تصفيفة شعرها المشابهة لذيل الحصان. فقالت هامسة:
– هل انت بخير؟
– لا لست بخير، لا استطيع الراحة، طالما هناك ارواح بريئة تزهق بسبب الختان.

شاهد أيضاً

تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”

أمل فرج  أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.