بقلم : الأديب الجزائري واسيني الأعرج
الرواية من حيث هي جنس شعبي شديد الحساسية، تتلوَّن بتلوُّنات الواقع السياسي والاجتماعي والحضاري الذي يعيشه العالم اليوم عمومًا، والعالم العربي تحديدًا، في ظل أوضاع متحوِّلة وشديدة القسوة والخوف من المستقبل أيضًا. في غمار التجربة الفنية العربية اختارت الرواية العربية المسالك الأكثر صعوبة بالنقد والتحليل محمّلة بسلسلة من الأسئلة المُعقَّدة لا تجد دائمًا إجاباتها التي تتوخَّاها. صحيح أن الرواية ممارسة فنية بالدرجة الأولى وليست بحثا يقينيا، ولكنها ممارسة تسمع بقوة إلى ما لا يسمعه الجميع. إلى التكسُّرات الأشد عمقًا في المجتمع. إلى الصوت الخفي الذي يعبر التحولات الظاهرة بضجيجها ورعبها.
بهذا المعنى، فقد واجهت الرواية العربية عصرها بالانخراط فيه بعمق، أولا، والدفاع عما تبقَّى من قِيَم إنسانية مقاومة للابتذال والتلف، والمراهنة على الحرية بوصفها منتهى وبدء الأشياء. إضافة إلى نقد الخيبات الكبيرة التي تخترق المجتمع العربي، في أفق تأسيس مجتمع جديد وتصوّرات حية. انتقدت الرواية عصرها وانتقدت أصعب تجلياته الفكرية، فكانت جزءا حيويا من آلته التي ليست عاطفية بأي شكلٍ من الأشكال. من هنا، صورة الدكتاتوريات التي كسرت كل إمكانية للتطور ليست إلا محصلة للخيبات المتواترة، وضعتها الروايات العربية في أفق النقد بالتوغل في نظمها الخفية. عبدالرحمن منيف، نبيل سليمان، بنسالم حميش، محمد ديب، وسواهم. هذه التعددية الكبيرة جعلت الرواية على رأس الأشكال المقاومة للموت البطيء المفروض على المجتمع. الحرية تشكل حجر الزاوية في العملية لأنه بدونها لا يمكن التفكير في أي شيء آخر. لا رواية إلا بها.
فالرواية هي الحرية بامتياز من حيث مساحاتها الواسعة والكبيرة. فما يحدث اليوم في الوطن العربي مُعقَّد. ويحتاج إلى رؤية متعددة الجوانب وغير نافية للعناصر الخارجة عنها وإن كانت وافدة عليها، سواء التاريخ أم الاجتماع أو علم النفس وحتى المستقبليات، وواسعة لتغطية المساحات الأدبية الأكثر ضمورًا وتخفيًا. نعرف سلفًا أن الثورات لا يمكنها أن تتم على بساط من حرير، فهي تبنى على الحلم ولكن أيضًا على القتل والموت والعذابات والتشريد. الجزائري في الخمسينيات، إبان الثورة التحريرية، عندما دخل حربه القاسية ضد المستعمر، كان يخزن في رأسه ضرورة واحدة وأساسية: التخلص من آلة استعمارية قاهرة دمّرت الجغرافيا والتاريخ والكائن من داخله. فكشفت رواية الجيل الأول من المقاومين عن اللوحة الخلفية والقاسية التي لا تظهر بسهولة للمواطن العادي أو حتى للقراء. ولا تقول فقط الحرب، ولكن تقول نقيضها أيضا. الحياة والحب ورشاقة الإنسان الداخلية. لأن الرواية الثورية في العمق ليست دائمًا هي الرواية التي تعتمد خطابا مضادا مباشرا ودمويا أحيانا وعنيفا. أو تنشيء خطابا نضاليا صارخا.
إن روايات غيرت نظرة الإنسانية إلى المرأة، وهدمت الخطاب التقليدي في علاقته بالمرأة، مثل آناكارينين، ومادام بوفاري، والأحمر والأسود، ليست أقل ثورية من أشعار غارسيا لوركا، أو أشعار ماياكوفسكي، أو كتابات أراغون، أو درويش، أو كاتب ياسين، أو سارتر، أو جون جنيه أو غسان كنفاني، التي اصطدمت بشكل ثوري مباشر مع عدوّها، دفاعا عن حقها في الحياة، والوجود. المهم، فقد اختارت الرواية العربية، كما الرواية العالمية، المسلك الأصعب الذي لم يفهمه الشاعر الفرنسي برازياك في الوقت المناسب، ولم يلمس جوهره، حيث اختار صف القتلة وسلطة النازية، أي اختيار الأقوى، فحكم عليه في النهاية بأن يدفع الثمن غاليًا، إذ تم إعدامه بعد حكم القضاء ضده. الرواية الثورية بهذا المعنى ليست ضجيجًا، ولكن تأملًا هادئًا في عالم سرّي، تحكمه شفرات اللغة، لا نراه بسهولة.