الثلاثاء , نوفمبر 19 2024
الكاتب والروائى العالمى واسينى الأعرج

معابر الخوف والضغينة والآتي المبهم

بقلم : الأديب الجزائري واسيني الأعرج

ظلم كبير هي المعابر التي تجعل من الضفة الغربية وبقية المدن الفلسطينية سجناً واسعاً يشمل البشر والشجر والحيوانات والجبال والطرقات، خاضعاً لأمزجة إداريي المؤسسة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، حتى أصبح الأمر مسلمة ينتظرها العابر الفلسطيني والأجنبي، أو القادم بتنسيق مسبق بين دولة فلسطين والاحتلال، إذ يعتريه لحظة العبور الكثير من الوجل وتنتابه الأسئلة الافتراضية الغامضة وكأنه متهم وعليه أن يثبت براءته من الجريمة المفترضة.

أية أسئلة سيضطر للإجابة عنها؟ هل سيعبر أم يرجع على أعقابه بعد انتظار ساعات طويلة تحت الحر أو المطر بحسب الفصل. ويربي في داخله كل وسائل الدفاع التي تجعل منه شخصاً غير خطير، للمرور. مع أنه ليس في حاجة للكذب. هو قادم بناءً على دعوة مسبقة من جهة فلسطينية. متحف درويش، معرض الكتاب، جمعية ثقافية، من وزارة الثقافة، أي أن الزيارة ليست سياحية في مساحة تعسكرت حتى فقدت إنسانيتها، ولكن بها بشراً سرق حقهم الأدنى في العيش ولهم كل الحق في الوجود.

لم يكن الرئيس عباس مخطئاً حينما قال في لقائه مع المدعوين العرب لمعرض فلسطين؛ انتهى تعبير السلطة الفليسطينية. نحن اليوم دولة حتى ولو لم يرض أبناء عمومتنا. يتوجس العابر أو المستعد للعبور لمبهم لا يعرف احتمالاته حتى وإن افترضها. يتذكر أسئلة تبدو غبية: هل أنت حامل للقنابل والمتفجرات. إجابة غبية مثل السؤال. لا لا أحمل سلاحاً او متفجرات. تأخذ الشرطية الجوازات للمخفر الصغير وهي تصطنع ضحكة بائسة مع صديقها. هي لعبة لاختبار الصبر والصدق. تذكرني بالسؤال الأمريكي الذي يتم من خلاله اختبار العابر وصدقه في المطارات. كل وجوه المعابر متشابهة. باردة. صفراء. في حالة خوف مبطن. أجساد مرتبكة على الرغم من صرامتها، مدججة حتى العنق بالأسلحة الأتوماتيكية. أرتد إلى الأعماق: هل سألوا القلب ماذا فيه؟ هل فتشوا الغبن الذي ينام فيه العابر عبرهم، وهو يرى الظلم يكبر في كل ثانية؟ ما يخزنه يوازي قنبلة ذرية، لأن التحقير والتعذيب السادي يولد كل التطرفات الممكنة التي قليلاً ما ننتبه لها لكنها تتربى مثلما كانت أمهاتنا تربين عجينة الخميرة قبل أن تتحول إلى فتيل ملتهب.

هل يفكر الإسرائيليون في هذا وهم يستنهضون في المعابر كل ما خزنوه من تاريخ انتقامي؟ لا أعتقد. المشكل أن منطق القوة هو القوة والقوة فقط. لهذا تصبح السادية مسألة طبيعية. تعذب عدوك الذي تخافه بإرهاقه نفسياً. بانتهاك هدوئه وحميمياته. نتحدث عن معبر لكنها معابر. في دولة عسكرية بامتياز في كل تفاصيلها، لا يمكن للصدفة أن تكون سيدة. كل شيء مراقب. العيون. الوجوه. الحركات. التنفس. الهواء.

أتساءل ما جدوى الأسئلة الغامضة التي لا تفضي لأي شيء سوى المزيد من الإهانة التي تبدأ بوقفة دفع الأمتعة، في منظر تراجيدي بالخصوص للذي يعبر عبوراً عادياً غير الفي آي پي. VIP. هذا في الحالة إذا لم يقرر مسؤول استيقظ صباحاً على كابوس عربي، بمزاج عكر مع نفسه وضد العابرين، فيغلق كل المعابر فيضطر الناس إلى العودة إلى الجهة التي جاؤوا منها، من هنا أو من هناك. في الحالات الجيدة، تقذف الباصات التي تمر من خرم إبرة المراقبة، بجيش من الناس القدمين من الجسرين الحسين واللنبي، تحت شمس حارقة. يقفون في طوابير لا حدود لها كل مع حيرته وأسئلته الخاصة. حالة حشر. يعبر بعض السواح الأجانب من هنا او من هناك. بعض محظوظي «الفي آي پي». يصل الباقون بحقائبهم الثقيلة ألى ثقب «السكانر» البدائي. مرور ومراقبة الأمتعة. توضع على جوازك لصقات الأمتعة التي تستلمها بعد الانتهاء من كل الإجراءات بعد ساعات قد تطول أكثر من كل ما افترضته أنت شخصيا. ثم تواصل تدافعك. تتقدم باستقامة حتى تصل إلى مراقب صور الجوازات فقط. منصب غريب لا يوجد في أي مكان في العالم. يقلبها بين كفيه كمن يقلب جمراً. يتفحصك كأنك مجرم أو سارق أو كائن خارج النظام الكوني أو حيوان مفترس. وظيفته أن يقارن بين وجهك وصورة الجواز. سنوات طويلة وأنا أعبر حدود العالم. رأيت كل الأشكال والألوان. لأول مرة أرى هذه الوظيفة البليدة لأنه لا معنى لها أبداً. فهي من الناحية الأمنية لا تعني شيئاً مطلقاً. إذ ببساطة يمكن أن تكون الصورة في جواز مزور مثلاً هي نفسها وجه الواقف، لكن الاسم ليس هو. ما قيمة ذلك في ظل النظام الإلكتروني المعقد الذي يحسب الانفاس ودقات القلب، إذا لم يكن فقط الإثقال من الإجراءات لدفع الفلسطيني إلى المزيد من الإذعان، ومن يزور فلسطين، إلى الملل وعدم العودة.

والأبأس من هذا كله أنه عندما يتفحصك بشكل آلي وكأنه «سكانر» غبي، يرمي لك الجواز ولا يلتفت نحوك، ليمر نحو غيرك. تكرار الفعل اللإنساني يقتل الحواس ويحول الكائن المالك للقوة إلى آلة. ثم تعبر نحو «ساكانر» ترمي فيه أمتعتك اليدوية هذه المرة. قبل أن تستقبلك سيدة او سيد. لا مشكلة كلهم يتشابهون وكأنهم منتقون بدقة. تتفحص الجواز طويلاً برفقة أسئلة ثقيلة. لماذا؟ ومتى؟ وأين؟ في الأخير، وبعد زمن قد يقصر أو يطول، تعبر كالمنتصر على قدر مشؤوم. في نظرة شرطية الحدود شيء من الضغينة تعلنها ملامح الوجه وحركات اليد ونظرة العينين. قبل ان تستلم أمتعك اليدوية وتقف طويلاً عند شرطة الحدود الفعلية ورشاش الأسئلة التي لا تنتهي. وقد يتركك الموظف ويدخل في نقاش مع صديقته المجاورة، وجوازك وملحقاته بين يديه. يتضاحكان. يتسليان. الوقت لا قيمة له مطلقاً في دولة عسكرية لا مكان فيها لصدفة الوقت. من الجهة الأخرى، أطفال يبكون. من الجوع أو من التعب أو من القهر الذي يشربه الفلسطيني في الحليب. إسرائيل تصنع أعداءها بإحكام، بهذه الطريقة. أوجه مكسورة تترقب أي شيء مثلاً المنع من المرور. لا بالنسبة للعربي الوافد بدعوة، أو الأجنبي، اذ أقصى الافتراضات عودته إلى بيته. لكن ماذا بالنسبة للفلسطيني؟ هذا الذي سلب منه كل شيء وترك وراءه العائلة والأبناء والأب العجوز والأم المريضة. ماذا يفعل الفلسطيني الذي لا أرض له ينام عليها إلا تربته المسروقة. العيون المتعبة تقول كل شيء. كل شيء. تتعاظم أسئلة الرقيب وتكثر. من دعاك؟ يعاودها ثلاث مرات؟ لماذا أنت آت؟ من أين جئىت؟ هل لديك معارف سجناء أو إرهابيون في إسرائيل؟ قصدك فلسطين. الضفة الغربية؟ لا. أنا مدعو من جهة رسمية كما هو مثبت في الوثائق. ينظر إلى صديقته. تطرح الأسئلة نفسها. وتضيف. ما هي المدن التي ستزورها؟ لماذا هذه المدن تحديداً؟ ببرودة دم. عندي محاضرات. شو معنى محاضرات؟ أشياء أكاديمية. شو أكاديمية؟ أضحك في أعماقي. أجلس على طاولة، يحيط بي الناس وأحكي لهم عن كتبي. كاتب يعني. آآآه… قل كاتباً أفهم. أردد. نعم كاتب. تعيد الجواز إلى صديقها. يضعه جانباً. يأتي شخص آخر يأخذه. ساعة. ساعتين. الوقت سيولة. لا أهمية له. ثم يؤشر. أستلم جوازي والوثيقة الصغيرة التي تسمح لي بالمرور.

أربع ساعات في المعبر تحت حر الشمس ونظرات شرطة الحدود. ثم تعبر نحو الأمتعة. إنها هناك متراكمة في فوضى وعليها أختام حسن السلوك. لا خوف منها. تقلب هذا وتقلب ذاك. فجأة تظهر أمتعتك الضخمة أما الصغيرة فعليك أن تقلب كل شيء. عند الخروج تتنفس رائحة مازوت باصات أريحا فتبدو لك رائحتها غير خانقة. تركبها بإتجاه معبر السلطة الفلسطينية وتشعر فجأة بأن المغامرة انتهت بخير هذه المرة وأن فلسطين أصبحت فيك. في دمك. تغفو قليلاً. تنسى فجأة المتاعب، وتحلم بمعابر أسهل ليس بها إلا الفلسطيني الذي استعاد جزءًا من أرضه أو على الأقل معابر أكثر إنسانية، تحت إدارة الأمم المتحدة كما في كل مناطق الحروب؟ لكن، تلك مسألة أخرى، لا تزال بعيدةً قليلاً.

 

 

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.