الإثنين , ديسمبر 23 2024

الأقباط والعلمانية المفقودة (8) .

الكاتب : مايكل عزيز البشموري
* الكنيسة تقود حركات التنوير والانفتاح :
أشرنا بالحلقات السابقة بأن الحالة الفكرية فى مصر ، كانت تعانى بمطلع القرن التاسع عشر ، حالة من الركود والاضمحلال الثقافى ، فلم يكن فى مصر سوى معهد واحد للتعليم وهو الازهر الشريف ، ودخوله كان يقتصر علي المسلمين فقط ، اما بالنسبة للاقباط فلم يكن عندهم أي نوع من المعاهد العلمية وكان التعليم بينهم مقصوراً على الكتاتيب وكانت فى الغالب تلحق بالكنائس ، الامر الذى دعى بعض الارساليات التبشيرية فى بادئ الامر للتطوع ومساعدة الكنيسة القبطية لإنشاء مدرسة لاهوتية لتعليم الشبان الاقباط العلوم الكنسية وغيرها ، لتخريج خدام وكهنة مثقفين ينفعون كنيستهم القبطية ، وكما أشرنا مسبقاً ، فقد ساهمت الكنيسة الاسقفية البريطانية بإنشاء تلك المدرسة على نفقتها الخاصة ؛ وكان يشرف على إدارتها المستر ليدر الانجليزي ، وذلك ما بين عام 1841 حتى عام 1848 م ، والجدير بالذكر أن البابا كيرلس الرابع قد درس فترة من الزمان بتلك المدرسة حسبما ذكرت مدام إديث بوتشر بكتابها تاريخ الامة القبطية .
وبعدما تولي محمد سعيد باشا حكم مصر ، قام بفتح البلاد على مصراعيها للاوروبيين ، فأوجد لهم الفرصة السانحة لإستغلال خيراتها ومواردها ، وعلى إثر ذلك أستطاع الاوربيين والارساليات التبشيرية المسيحية من تثبيت أقدامهم داخل مصر ، وكان ذلك على حساب وإستقرار الكنيسة القبطية ، فإفتتحت تلك الارساليات المدارس الاوربية ، ونشروا العلم ، وقاموا بإثارة الاقباط ضعفاء النفوس بالتحريض ضد كنيستهم ، وعملوا على إثارة البلبلة والتشكيك في العقيدة الارثوذكسية لإستقطاب المزيد من أبناء تلك الكنيسة لصالح مذاهبهم ، وقد ساهمت تلك الإرساليات في تفتييت الروابط العائلية المشتركة داخل الاسر القبطية عبر طرح الاختلافات المذهبية بين الطوائف المسيحية فى الاسرة الواحدة ، وظلت تلك الحالة على هذا المنوال حتى تقلد البابا كيرلس الرابع البطريركية فى سنة 1854 م ، لنرى نور الامل يتدفق مجدداً داخل أروقة كنيستنا العريقة ، فتجددت بيعة الرب بفضل إصلاحات هذا البطريرك الشاب ، الذى أنشأ المدارس الحديثة ، وقام بنهضة علمية لم يسبق لها مثيل ، ليشق بذلك الطريق نحو تدعيم أواصر الحركة الفكرية والعلمية بالبلاد ، لتتبوأ الكنيسة فى عهده بعد فترة زمنية قصيرة ؛ صدراة الحركات التنويرية والافكار التقدمية المصرية .
فقّد أدرك البطريرك كيرلس ذات الـ 38 عام ، بفضل فطنته وذكائه المعهود ، أنه لكى تنهض كنيسته مجدداً ، ولكى يحافظ على سلامة ووحدة شعبه ، كان لا خيار أمامه سوى إنشاء المدارس القبطية الأهلية ليقبل فيها التلاميذ على إختلاف أديانهم وأجناسهم ، فرفع شعاره الشهير : ” بناء المدرسة قبل الكنيسة “ ، ليتطور الامر فيما بعد وتنطلق الكنيسة نحو الانفتاح سريعاً فتتبنى فكرة إنشاء مدارس خاصة لتعليم البنات ، لتصبح الكنيسة القبطية بذلك ، أول مؤسسة دينية بالشرق الأوسط وبأفريقيا تؤسس مدرسة لتعليم البنات ، وهو أمراً كان غير إعتيادي في ذلك الزمان ، ليبطل البابا كيرلس قوة الاغراءات التى شكلتها مدارس الإرساليات الاجنبية على أبناء الاقباط .
ويتضح لنا أن الاصلاحات الهيكلية التى أحدثها البابا كيرلس الرابع داخل المنظومة الكنسية لعبت دوراً محوري للنهوض بالمجتمع المصرى آنذاك ؛ وأتت بثمارها النافعة على المصريين جميعاً ، فلم تقتصر تلك الاصلاحات على الاقباط وحدهم ؛ بل شملت كل المصريين بمختلف فئاتهم ومعتقداتهم ، وهو الامر الذى ألقى بظلاله الإيجابية على المجتمع فى ذلك الحين ، وانعكس بالإيجاب نحو تماسك وترابط عنصرى الامة ، والشعور بالوعى الوطنى بين المسلمين والمسيحيين ، ومن ثم الالتفاف حول هدفٍ واحد ؛ ألا وهو ، الإصلاح والتعليم ، فنرى ذهاب شيوخ الازهر وتقديمهم واجب التهنئة بالمناسبات الدينية والعامة للاقباط والعكس صحيح ، وحضور حفلات التخرج بالمدارس القبطية والجلوس بجوار قادة الكنيسة لمشاهدة تخرج الطلبة ”المصريين“ ، وهو الامر الذى غرز روح الانتماء الوطنى بين الجانبين .
* وأخيراً .. إلغاء الجزية عن الاقباط :
وعلى ضوء ذلك يتضح لنا الدور الإيجابى والفعّال الذى لعبته الكنيسة الارثوذكسية بالمشهد العام المصري ، فبفضل الاصلاحات الجذرية التى أجرتها الكنيسة ، إتجهت حركة الاقباط الثقافية عموما ، كجماعة إجتماعية للارتباط بقضية الدولة القومية المستقلة ، وهو الامر الذى تبدى فى مجال التعليم ، وفى مجال الثقافة العربية ، ومن هنا نري إنفتاح الدولة نحو تقرير المساواة في الحقوق المدنية بين المسلمين وغير المسلمين ، لتقر الدولة بأمر من سعيد باشا حاكم مصر إسقاط الجزية عن الاقباط فى عام 1855 م ، ليتساوى المسيحيون بنفس الحقوق والواجبات مع أشقائهم فى الوطن ، وفى عام 1856 أصدر سعيد باشا أمر عالى بدعوة أبناء الاقباط إلى حمل السلاح مع اخوتهم المسلمين والانضمام إلى الجيش المصري ، لتعتمد الدولة بذلك على كل المصريين بشكل أكبر فى وظائف الحكومة والجيش .
للحديث بقية

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.