الكاتب : مايكل عزيز البشموري
”الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ.“ (سفر المزامير 103: 5) .
يعيش طائر النسر حوالي سبعين سنه ، وبعد أن يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، تبدأ قوة مخالبه تضعف، وأجنحته تبدأ تلتصق بصدره ، فيصعب عليه الطيران لارتفاعات عالية والتحليق لمسافات طويلة ، ومنقاره المدبب القوي يضعف كذلك، وإستمراره على هذا الحال يعني هلاكه لا محالة، فلا يستطيع بمظاهر الضعف تلك الصيد والانقضاض على فرائسه ؛ فيكون النسر هنا أمام خيارين ، إما الاستسلام لقدره فيموت ، أو يعيد تقوية بدنه ونشاطه ليعيش من جديد، إلا أن الخيار الثاني ضريبته عالية وليس خياراً سهلاً ؛ فيبدأ النسر في دخول مرحلة صعبة في حياته، وعليه كما قلنا، أن يتحمل آلامها من أجل البقاء حياً. فيذهب النسر إلى قمة الجبل حيث عشه، ويعيش هناك فترة لا تقل عن مائة وخمسين يوماً، يقوم بداية بكسر مخالبه بالضرب على الصخور حتى تنمو مخالب جديدة، حتى إذا ظهرت ونمت يقوم بكسرها مرة أخرى، وينتظر بعدها نمو المخالب من جديد التي ستكون أقوى مما كانت قبل عملية الكسر الأولى. وبالمثل يكون الحال مع منقاره.
المرحلة الأخيرة ضمن المائة وخمسين يوماً الصعبة يقوم فيها النسر بنتف ريشه حتى ينمو له ريش جديد. وينتظر أياماً وليالي ريثما ينبت له ريش جديد كما لو أنه في شبابه. هذا الريش الجديد سيعمل على تقوية جناحه الذي لن يلتصق بصدره بعد الآن، ليبدأ النسر حياة جديدة ويعيش حوالى ثلاثين سنة أخرى، ويعود صياداً ماهراً ينقض على فرائسه بفعل مخالب حادة وقوية .
هكذا احتاجت الكنيسة القبطية بمنتصف القرن التاسع عشر أن تُحدث من نفسها تلقائياً بعد مخاضٍ عسير تعرضت إليه ؛ إثر عصور الظلمة الذى ذاقت فيه الألم والإضطهاد ، ليتجدد مثل النسر شبابها ؛ و لتعود مثلما كانت عليه بعصرها الذهبى ، فبعد نياحة البابا بطرس الجاولى عام 1852 م ؛ كانت هناك رغبة مُلحة لدى جموع الشعب القبطى ونوابهم بإختيار بطريرك جديد بمواصفات خاصة ، ليتواكب مع روح التجديد والتغيير بذلك الزمان ؛ فتوجهت أغلب الأنظار نحو الراهب الشاب القمص كيرلس الانطونى ذات الثامن والثلاثون ربيعاً ؛ والذى كان يرأس دير الانبا أنطونيوس بالبحر الأحمر ؛ وعند اجتماع المجمع المقدس للكنيسة القبطية الارثوذكسية لانتخاب بطريرك جديد ؛ تردد بين أوساط الشعب إسم القمص كيرلس الانطونى فى فم كل قبطى لإنتخابه بطريركاً ؛ وقد تردد الاساقفة المجتمعين من تزكية وتسليم منصب البابوية ليد راهب شاب تربى تربية أجنبية ، وتلقى تعليمه الدينى بالكلية اللاهوتية الانجليزية ، الذي كان يديرها وقتئذ السيد ليدر الانجليزى ؛ وقد عزم الاساقفة المجتمعين على إنتخاب راهب عجوز من جيلهم لتولى مهام البابوية ، وتقول مدام بوتشر : ” لقد أشيع وتأكد للشعب أن مجمع الاساقفة كانوا على عزم لإنتخاب راهب أبله جاهل ( حسب وصفها ) راح أسمه من ذاكرتى ؛ فثار عليهم الشعب القبطى ثورة حقيقية واصطحب الاقباط جماعة من الأحباش المتسلحين وأسرعوا جميعاً الى الكنيسة الكاتدرائية حيث كان الاساقفة مجتمعين بها لإجراء الانتخاب ؛ فهُيجوا عليهم وأبطلوا الانتخاب بالقوة الجبرية ؛ فما كان من هؤلاء الاساقفة الشيوخ المساكين العقول الهروب من الكنيسة ؛ ثم التزموا بالرضوخ والقبول بصوت الشعب القبطى ، وتم الاتفاق بين الطرفين ( الاساقفة والعلمانيين ) بطريقة تحكيم غريبة وهى أن يصير تأجيل انتخاب البطريرك ويتم رسامة القمص كيرلس مطرانا عاما للقاهرة ، على شرط أنه إذا أظهر كفاءة تامة فى وظيفة الأسقفية ينتخب بطريركاً ؛ وتضيف مدام بوتشر حول تلك الواقعة بالقول : ” كانت مواد هذا التحكيم الغريبة غير أصولية بالمرة لانه طبقاً لمواد القوانين الكنسية القبطية لا يجوز تحليل أو تأويل تلك المواد التى منها عدم جواز انتخاب أسقف عام أو مطران ايبارشية لوظيفة البطريركية ؛ ولكن بالرغم من ذلك فقد قام الاساقفة بمعاهدتهم مع الشعب بكل أمانه وانتخبوا كيرلس على العرش البابوي الخالي حتى قبل ان ينتهى وقت التجربة المخصصة له “.
تلك الواقعة توضح لنا الدور الحيوي والفعّال الذى لعبه العلمانيين الاقباط فى اختيار البطريرك القبطى ؛ وتبرز لنا جهودهم الحثيثة نحو تطوير كنيستهم عبر إنتخاب بطريرك شاب يتمتع بثقافة علمية ودينية عالية ، لتؤهلانه ، قيادة كنيسته وأبناء شعبه ، بشكل يتوافق مع معطيات ذلك الزمان ؛ لنرى أن دور الشعب لم يعد يقتصر حول تلقى الوعظ والإرشاد من قادته الدينيين وحسب ، بل عندما سنحت الظروف المواتية والمناخ العام المستقر ، أظهر أبناء الكنيسة حرصهم الشديد على إختيار رعاة أمناء يسهرون على رعايتهم ، ليلعب العلمانيين دور الشورى والجهة الرقابية على أداء وقرارات مجمع كنيستهم الموقر ، ليكونوا كالبوصلة التى تحدد المسار الصحيح لربّان السفينة ( الكنيسة ) ، وعلى الربّان الماهر والمتمثل بالبطريرك ؛ الاسقف ؛ الكاهن ، السير على خطى تلك البوصلة ، التى ستؤدى بالسفينة وركابها نحو الاتجاه الصحيح ؛ ومن ثم الوصول إلى ميناء الخلاص . ولعل إحتجاج الشعب القبطى وإصرارهم على تزكية القمص كيرلس الانطونى ( البابا كيرلس أبو الاصلاح ) ، للترشح لمنصب البابوية كان خير مثال على ذلك . فأصبح الشعب القبطى هنا مثل طائر النسر العظيم ، الذى يمثل المجتمع القبطى ؛ وينبض قلب هذا النسر بدقات أجراس كنيسته القبطية العريقة ، ويمثل جناحيه المنظومة الكنسية كجناح أيمن ؛ والمنظومة العلمانية كجناح أيسر ، فلو أصيب أحد هذين الجناحين بمكروه لن يستطيع هذا النسر الطيران والتحليق من جديد ،
وسنرى أن قادة الكنيسة حاولوا بقدر المستطاع التفاعل مع دعوات الاقباط الاصلاحية حسب إمكاناتهم المتاحة ، ونخص بالذكر البابا كيرلس الرابع ( أبو الاصلاح ) ، الذى عمل على تطوير وتحديث المنظومة الكنسية عبر تأسيسه للمدارس التعليمية ، لإجل اللحاق بالركب الحضاري الذي شهدته دول أوروبا المسيحية .
ومن تلك الروئ يتضح لنا مؤشرات الصعود والهبوط المتكررة التى أصابت الكنيسة بالنصف الثانى من القرن التاسع عشر ، بسبب الصراع المعلن بين العلمانيين الاقباط وقادة الكنيسة حول إدارة شئون الطائفة القبطية ، وكيفية تقاسم الادارة والسلطات التنفيذية فيما بينهم ، وهذا ما سنشرحة فى الحلقات المقبلة بمشيئة الله .
وبهذا الصدد نستطيع القول أن الاقباط كإحدى مكونات الشعب المصرى ، ساهموا بصورة أو بأخرى على تهيئة المناخ العام ، القبول بفكرة الاصلاح الدينى ، وأصبحت دعوات مفكريهم وعلمانييهم مصدر إلهام لدى الجانب الأخر ؛ لاسيما وأن المجتمع كان يعانى وقئتذ حالة من الإضمحلال الثقافى والأخلاقى ، نتيجة إرث الماضى وإرهاصات الحقبة المملوكية ، أضف إلى ذلك المؤثرات السلبية التى أفرزتها الثقافة العثمانية الضحلة على المجتمع المصرى آنذاك .
للحديث بقية
الوسوممايكل عزيز البشموري
شاهد أيضاً
نجيب محفوظ ومقهاه وخان الخليلي ووطن !!
بقلم عبدالواحد محمد روائي عربي جسد الروائي العالمي نجيب محفوظ العديد من أعماله الأدبية من …