الكاتب : مايكل عزيز البشموري
بدأ الإصلاح الكنسي داخل الكنيسة القبطية بمنتصف القرن التاسع عشر ، أي بعد الاصلاحات الجذرية التى بدأها محمد على باشا للنهوض بالدولة المصرية ، فبعد تخلصه من المماليك عام ١٨١١ م ، وقيامه بتثبيت أركان حكمه ، أيقن ”محمد على“ ان البلاد رازحة تحت مثلث الفقر والجهل والمرض ، وأدرك بفطنته المعهودة أنه لكي تنهض مصر مجدداً ، عليه القيام بتأسيس منظومة تعليمية متكاملة ، لتوفير الكفاءات البشرية التي ستدير إدارة هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي بالمستقبل ؛ ولهذا الغرض أرسل تسع بعثات علمية إلى الخارج للدراسة بالمجالات العلمية ، العسكرية والاقتصادية ، وقد ضمت تلك البعثات 319 طالبًا وبلغ إجمالي ما أنفق عليهم 303,360 ألف جنيه مصرى .
وفى عام 1813م أرسل ”محمد على“ أولى البعثات التعليمية لإوروبا ، حيث أوفد عدد من الطلبة إلى إيطاليا لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة، ثم تبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا. وكانت البعثات الأولى صغيرة نسبياً حيث كان جملة من بعث خلالها لا يتعدى 28 طالبًا ، ثم تلتها أهم البعثات العلمية عام 1826م ، التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة.
وشهد عام 1844م ، أكبر البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم “بعثة الأنجال” لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده كحليم بك وإسماعيل بك الذي أصبح فيما بعد خديوي مصر .
وكان الطلبة المبعوثين بالخارج للدراسة كانوا يخضعون كل شهر لامتحانات تُرسَل نتائجها لمحمد علي باشا ليطلع عليها بنفسه. وقد كان الباشا كذلك يرسل لهم خطابات تشجعهم على الدراسة وقد توبخهم في حال إهمال بعضهم.
وقد وصل العائدين من البعثات الأوروبية لمناصب كُبرى في الدولة المصرية فيما بعد ، مما مهد الطريق لخلق طبقة أرستقراطية جديدة في المجتمع المصرى حيث تمكنوا من خلال وضعهم الاجتماعى الجديد من الحصول على مناصب برواتب عالية وهدايا وأراضٍ وألقاب.
* الاسد الجريح يتماثل للشفاء :
ومع الاستقرار الذى شهدته البلاد إبان فترة حكم محمد على ، إبتدأ نشاط الإرساليات المسيحية يتزايد عملها فى مصر ، وقد أبدى المبشرين الانجيليين ( البروتستانت ) تعاونهم مع الكنيسة القبطية ببادئ الامر ، وقاموا ببذل جهداً مشكور للنهوض مجددا بهذة الكنيسة العريقة . وكانت كنيستنا القبطية تعانى ظروفا عصيبة وقتئذ ، فقّد أصابها الضعف والوهن بسبب فقدانها بنيتها ومؤسساتها التحتية والتعليمية ، مما أدى عدم إخراج رجال دين مثقفين وملمين بأمور دينهم ، فلم يكن هناك كليات إكليريكية أو مدارس لاهوتية بالشكل المتعارف عليه الان ، فما كان موجودا هو كتاتيب بسيطة لتعليم الصغار الصلاة بالكتب المقدسة ، وبالنسبة لرسامة القسوس فكان الكهنوت يورّث بتلك الحقبة للأسر الكهنوتية ، وهى عادة قديمة كانت متبعة آنذاك ، نظراً لعدم وجود كليات لاهوتية لإعداد وتخريج رجال دين أرثوذكسيين ، و السبب فى عدم وجود مدارس قبطية ، يرجع للاضطهادات المريرة التى تعرض لها الاقباط بالعصر المملوكى البائد ، فعاشت الكنيسة فترة عانت فيها من الضعف والاضمحلال ، وكانت بأمس الحاجة ليد المساعدة للنهوض من جديد .
وتقول مدام بوتشر حول تلك الحقبة : ” و لكن حصل اثناء ذلك ان شعبا غربيا ( الإنجليز ) قام بتعضيض الكنيسة القبطية حتى تتقدم و تنمو بدلا من ان يزداد ضعفها بواسطة المساعي التي قام بها الكاثوليك لتبديد اعضائها و اغرائهم على الدخول في المذهب الكاثوليكي ، و قد بدأت تلك المساعي العظيمة من جناب المحترم المستر هنري تاتام الانجليزي الذي وجه التفاته خصوصا في اثناء بحثه على المخطوطات اليدوية القديمة التي يصنعها الاقباط ، فكتب الى جناب الاسقف هولى رئيس الاساقفة بانجلترا يحضه على القيام بواجب الكنيسة الانجليزية نحو الكنيسة القبطية القديمة التعيسة ( حسب تعبيرها ) ، وابتدئت المخابرات بينهما سنة 1836 م “ .
و تضيف مدام بوتشر : ” لم يكن المستر تاتام اول رجل انجليزي حض الكنيسة الوطنية الانجليزية للمجيئ و اخد بيد الكنيسة الوطنية القبطية المداسة تحت الاقدام ( حسب تعبيرها ) ، و مساعدتها ، وأشارت بأنه فى سنة 1833 ميلاديا جاء المستر كرزون الى مصر للبحث عن المخطوطات اليدوية التى اشتهر بها الاقباط ، و زار اكثر و اهم الصوامع و الاديرة القديمة المصرية ، و قد وجد المستر كروزون في أديرة وادي النطرون مخطوطات أثرية لا تقدر بثمن ، وإستطاع إقناع الرهبان الاقباط بأخذها وحفظ تلك المخطوطات النادرة بقسم الأبحاث والمخطوطات الاثرية بمتحف لندن للآثار ، وقد وافق الرهبان بذلك الامر عن طيب خاطر ، ومن أهم تلك الكتب الاثرية ، كتاب باللغة القبطية للبابا كيرلس عمود الدين عن اللاهوت وطبيعة المسيح ، ومخطوطات لاهوتية قيمة للانبا أثناسيوس الرسولى .
وقد أكتشف أيضاً السيد كروزون المصابيح الزجاجية الجميلة ( الفوانيس ) التى لا تزل معلقة في الكنائس ( للأسف اندثرت حالياً داخل كنائسنا القبطية ) ، و هي المعروف الان عند العموم انها من صناعة العرب و قاصرة على تزيين الجوامع فقط مع ان العرب هم الذين نقلو تلك الرسوم البديعة عن اشكال و رسوم القناديل التي كان يصنعها الاقباط و خصوصا اجمل اشكالها التى كانت تستعمل عندهم للكنائس و اللوازم الدينية و لكن المستر كروزون رأى أن كل المعامل ( المصانع ) القديمة التى كانت تصنع فيها تلك القناديل في وادي النطرون قد اندثرت كليا منذ زمان طويل وتلاشت النماذج التى نقل منها العرب شكل قناديلهم .
وبعد أن وصل السيد تاتام الي انجلترا في مارس سنة 1940 ميلادية ، قدم إلي سيادة رئيس الاساقفة مذكرة عظيمة ومهمة للغاية ، مبينا فيها حال الكنيسة القبطية المصرية ، وبالاختصار جاء فيها إلحاح بحرارة على الكنيسة البريطانية ، طالبا منها مساعدة تلك الكنيسة التعيسة .
وقد قرر رئيس أساقفة إنجلترا عرض خطة جادة لإيجاد كلية لشبان الاقباط الارثوذكس ، الذين يرغبون تعليم اللاهوت للاندماج في سلك الاكليروس ، ويصبحون قسوسا متعلمين ينفعون كنيستهم القبطية ، وقد أنشائت فعلا تلك الكلية عام 1841 م ، وظلت فاتحة ابوابها للطلاب عدة سنوات ، بإدارة المستر ليدر ، لكن بعدئذ همدت عزيمته ووهنت شجاعته ، لما آنس الضعف في هذا المشروع ، وكان نجاحه قليلا ، ولسوء الحظ أبطل الكلية وأغلقها سنة 1848 ميلادية ، مع أن البذور التى بذرها المستر ليدر في بضع سنوات ، قد أثمرت في نسل الذين تعلموا فيها . ولم يعلم المستر ليدر أن ثمرة جهاده وكفاحه قد أخرجت لنا أهم بطاركة الكنيسة القبطية بعصرها الحديث وهو البابا كيرلس الرابع المعروف بأبي الإصلاح ، والذى كان من أنبغ التلامذة بمدرسة السيد ليدر الانجليزي .
للحديث بقية
الوسوممايكل عزيز البشموري