الجمعة , نوفمبر 22 2024
تامر وجيه

في الخامس والعشرين من أبريل 2016.. هل انتصرنا أم هُزِمنا؟

بقلم : تامر وجيه

عذرًا، لن أكتب هنا عن الانتصار أو الهزيمة بالمعنى التكتيكي أو الميداني.

فعلى هذا المستوى، ولا أنكر أنه مهم، ستجد في عالمين متوازيين – متلاصقين لكن منعزلين – إجابتين متعارضتين. بين السيساوية، وعلى قنوات الدولة التليفزيونية، وفضائيات رجال الأعمال، وفي الكومباوندات الراقية، ونوادي الطبقة الوسطى العليا، سترى السخرية والتشفّي في “الكّلجية الذين فشلوا في التظاهر ولم يستجب لهم أحد”.

وفي المقابل، بين الثوريين، وفي المقاهي الخاوية على عروشها، والمنتديات الشبابية، وعلى جبهات السوشيال ميديا، ستجد نبرة “ورغم كل ذلك فقد انتصرنا وفضحنا رعبهم وجعلناهم يلهثون وراءنا من شارع إلى شارع” منتشرة، إن لم تكن سائدة.

قطعًا النصر والهزيمة يبدآن وينتهيان في العقول والقلوب. فأن تشعر أنك انتصرت لهو على الأقل نصف نصر.

لكن النصر ليس فقط “حالة نفسية لحظية”، وإنما أيضًا حسابات دقيقة تكشف مغزى الخطوة في علاقتها بالهدف، أي ترى المعركة الصغيرة من منظور الحرب الطويلة.

بهذا المعنى أنا أرى أن الخامس والعشرين من أبريل “خطوة” لها أهميتها في عملية تشّكُل كتلة معارضة جذرية لنظام 3 يوليو 2013.

إفلاس المعارضة

كان انقلاب منتصف 2013 العسكري قد ترك كلاً من المعارضة الموروثة من عهد مبارك، والمعارضة الجديدة الطالعة بعد الثورة، مهلهلة شبه ميتة.

لم تكن تلك هزيمة عسكرية، وإنما أيديولوجية وسياسية.

ما أقصده أن المعارضة – في أغلبيتها الساحقة – لم تُهزم هزيمتها الكبرى في مواجهة ميدانية مع قوى الثورة المضادة، مواجهة حاربت فيها وانكسرت تحت تهديد السلاح، بل هُزمت بابتلاعها، هي نفسها، في مسارات مضادة للثورة على طريقتين:

الطريقة الأولى – والأكثر تأثيرًا – هي تلك التي رأيناها في حالة الإخوان المسلمين ومؤيديها الإسلاميين.

حيث بدأ هؤلاء بالتحالف مع المجلس العسكري، رأس حربة الثورة المضادة، وانتهوا بمقاومته تحت رايات طائفية تقسيمية بعد انقلابه عليهم.

وأما الطريقة الثانية، فقد اتبعها ما يُطلق عليه “القوى المدنية”، التي كرهت المجلس العسكري لتحالفه مع الإسلاميين، وأحبته لما استعد للانقضاض عليهم.

أما القوى الثورية – تلك الأقلية غير واضحة المعالم الواقفة على هامش صراع الديناصورات – فقد كان صوتها عاليًا في الميادين خافتًا في السياسة.

لكن لما كانت السياسة تفرض نفسها فرضًا، مثلًا في لحظات ذروة الصراع على السلطة، كان الثوريون في الأغلب يتذيلون الساسة التقليديين، إلى أن رأينا أغلبيتهم الكاسحة تهلل – تحت قيادة جبهة الإنقاذ – للانقلاب باعتباره المنقذ والحل في مواجهة “ظلامية” الإخوان والإسلاميين عامة.

تلك كانت مسيرة الهزيمة المعنوية للمعارضة بكل أطيافها، وهي مسيرة خلّفت وراءها فراغًا خطيرًا بعد 30 يونيو.

فتقريبًا لم تعد هناك معارضة يُتَطلع إليها. حتى المحاولات الصغيرة التي بذلت هنا وهناك انتهت إلى لا شيء.

هنا بالضبط يمكننا فهم مغزى مظاهرات الخامس والعشرين من أبريل كخطوة على طريق إعادة بناء “ممكنة” للمعارضة الجذرية للانقلاب.

ميلاد جديد

تأتي مظاهرات الخامس والعشرين من أبريل على خلفية انحسار واضح في الأجواء الاحتفالية المتفائلة التالية للانقلاب ولانتخاب السيسي رئيسًا للجمهورية، أجواء تسلم الأيادي وبشرة خير.

كانت الكفتة، وليس القمع المفرط، هي أساس الخلخلة في الهيمنة، التي ثبت أنها مؤقتة جدًا، لسلطة 30 يونيو.

والكفتة المقصودة هنا ليست مشروع عبد العاطي البائس لعلاج كل أمراض الدنيا، بل مفهوم أوسع بكثير مضمونه هو الانهيار الشامل للتحالف الحاكم من النواحي الأخلاقية والمعنوية والمهارية والمعرفية.

إنه حكم الحثالة حرفيًا، حكم يقوم أيديولوجيًا على رطان وطني كثيف ومقرف، ولكنه يسير عمليًا على طريق الانهيار الاقتصادي، والمذلة القومية، والتخبط السياسي، وصناعة الأعداء مجانًا، وخسارة الأصدقاء بالجملة.

هي العسكريتاريا الليبرالية الجديدة معدومة المواهب فاقدة الصلة بالواقع.

في هذا السياق، ومع الآلام الاقتصادية المتزايدة التي تعاني منها قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى وما دونها، وفي ظل غباوة الحكم، بدأ تحالف 30 يونيو في التآكل والتقاتل. كذلك ساعدت الانتخابات البرلمانية، وطريقة إدارتها الأمنية، ونتائجها المقززة، على توسيع الجفوة بين الأجهزة والتيارات في دوائر الحكم.

فرأينا الردح والملاسنات والشتائم المقذعة، رأينا الفضائح، وسمعنا النميمة القذرة، وانتهى بنا الحال إلى اكتشاف مستنقع كبير اسمه أجهزة الحكم ودوائر السلطة.

الفشل المدوي من أعلى، وانهيار المصداقية، والتناقضات الصارخة في الخطاب، فتحوا جميعًا الباب أمام حركة معارضة ساخرة جبارة اتسعت دوائر مستمعيها يومًا وراء يوم.

لعبت المعارضة الساخرة، وميدانها السوشيال ميديا، دور الطليعة في الهجوم الأيديولوجي الذي شنه رافضو سلطة 30 يونيو.

تمامًا هي الأدوار نفسها التي لعبتها الصحف المستقلة وبعض برامج الفضائيات أيام مبارك في المعارضة والتحريض، تلعبها الآن السوشيال ميديا بسقف أعلى وعلى نطاقات واسعة.

بلغة الاستراتيجية العسكرية، يلعب التحريض الأيديولوجي – على خلفية أزمة سياسية ومجتمعية عميقة – دور المقدمة للهجوم الشامل.

إذ يفتح التحريض على مستوى الأفكار ثغرات في هيمنة السلطة على وعي الناس.

فبمقدار ما يكشف التناقضات، ويعري المهازل، ويخلق لغة للمقاومة، ويبلور معاني جديدة لما يحدث وما ينبغي أن يحدث، تتشكل “حالة” رافضة، ترتقي بالغضب الأوليّ الذي يسببه سوء الأحوال من مستوى المعاناة الفردية، أو الجزئية، أو القطاعية، إلى مستوى “حالة الرفض الجماعي”.

هذا بالضبط ما عشناه على مدى العام الماضي (2015): انتقال المعاناة الفردية/الجزئية إلى حالة واسعة النطاق.

أما الآن، وبسبب تسارع معدلات الفشل، متزامنًا معه نجاح التحريض في إنضاج “الحالة”، فإننا ننتقل إلى طور آخر. مظاهرات الخامس والعشرين من أبريل هي العلامة الأكبر والأهم على هذه النقلة.

صحيح أنها تأتي بعد تمهيدات ميدانية متكررة في الشهور الأخيرة، سواء على صعيد الإضرابات العمالية، أو على صعيد المواجهات المحلية في الأقصر والإسماعيلية والدرب الأحمر وغيرهم ضد وحشية الشرطة، أو على صعيد معركة الأطباء ضد الداخلية، لكن هذه هي المرة الأولى التي تأخذ المواجهة فيها شكلًا بهذا الاتساع والتسيس والشمولية.

في الميدان

لست في معرض تحليل هذا الخطأ التكتيكي أو ذاك، ولا حتى في معرض استقاء الدروس للمستقبل، همي فقط أن أشير إلى أن الخامس والعشرين من أبريل هو علامة مهمة بما يعنيه من انتقال من الأيديولوجي إلى الميداني.

لكن عليّ كذلك أن أشير إلى نقاط أظنها غاية في الأهمية.

أولى هذه النقاط أن الانتقال إلى الميدان لا يعني ترك الساحة الأيديولوجية خاوية، بل يعني أن بعدًا جديدًا يضاف إلى معركة متعددة المستويات بطبعها، معركة عليها أن تمزج الفكري بالسياسي بالتنظيمي بالجبهوي بالجماهيري حتى تحقق نجاحها الأكبر والأخير على المديين المتوسط والطويل، خاصة وأن مناط فشل الحركة الديمقراطية الجذرية يكمن في إهمال الرؤية والتنظيم المستقلين لحساب الحركة، أحيانًا بلا أفق.

النقطة الثانية هي أن البدايات دائمًا مترددة ومتناقضة.

فنحن في طور انتقال.

إذ استطاعت الحركة المعارضة النزول للشارع بالمعنى السياسي الأشمل، لكنها لم تثبّت أقدامها، وسوف تتقدم وتتراجع، ثم تتراجع وتتقدم، بالذات لأنها تواجه سلطة دموية ترفض فتح أي مساحات في الشارع أو في السياسة لأنها تعرف أن في هذا مقتلها.

ومعنى هذا أن ثبات قوى المعارضة الجذرية ضروري، فتذبذب حماستها وتبدل تقديراتها الاستراتيجية وأهدافها الكبرى مع الكر والفر خطر أكبر من خطر قمعية السلطة وشراستها.

النقطة الثالثة هي أن الانتقال إلى الشارع لا يعني أبدًا أنه قد تم كسب الشارع، وهذا هو جوهر أي صراع جذري يرى القائمون عليه أن طريق النصر فيه هو كسب الملايين إلى صف الحركة من أجل العدل والحرية.

لازال هناك شوط طويل لابد أن يقطع حتى يكسب المناضلون الجذريون قطاعاً معتبر من الشارع.

وإذا كان هناك هدف أسمى لحركتهم، فينبغي أن يكون الانتماء إلى الناس وعدم الاغترار بحركة الآلاف، ولا عشرات الآلاف، أو حتى مئات الآلاف.

التاريخ يصنعه الملايين، والثوريون هم جزء من الملايين.

الخلاصة هنا أنه من وجهة نظر تكتيكية يمكن أن يجد السيساوية سندًا لاحتفالهم بإفشال احتمالية الحركة الواسعة في الخامس والعشرين من أبريل، ويمكن كذلك أن يجد الثوريون سندًا لاحتفالهم بإرهاق الدولة وكشف فشلها في التعبئة الشعبية.

لكن من وجهة نظر الصراع الممتد، فإن جوهر ما حدث هو تعميد أوليّ لحركة معارضة جديدة في الشارع، نجحت الدولة – إلى حد كبير – في تعويق اكتماله، لكنها قطعًا لم – ولن – تنجح في إيقاف المسيرة الطويلة التي شهدنا بدايتها لتوّنا.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.