الأحد , ديسمبر 22 2024

نادية خلوف تكتب : وجع الغياب

عندما تحضرون تزداد الحياة جمالاً بكم ، يتألّق الليل بضحكاتكم، يكون للزّمن معنى ، وأضيع في تلك الليلة فلا وقت لدي كي أقول أشياء عن نفسي.

لم يعد حضوركم  حقيقيّاً ، أصابني داء اسمه وجع الغياب. أنتم غائبون عنّي، وأنا غائب عن نفسي.

منذ دخل الصّمت عالمنا لم يعد للحضور نكهة .تحضرون مصحوبين بالعالم الافتراضي الذي يوقعنا جميعاً في شركه، وتكون السّهرة رحلة نفاق على صفحات الآخرين. هذا العالم الذي سحبنا من أجمل لحظاتنا ووضع ثقافة الكره خياراً لنا حيث يمكنك أن تصبح عدّواً بمجرد أن  تضغط على المؤشّر على الحاسوب  .

أجمل ما في عالمنا الافتراضي هو وسائل التواصل الاجتماعي ، وهي أسوأ ما فيه أيضاً . أصبحت تلك الوسائل وسيلة مستبدّة تجعلنا ندمن على استعمالها ، ونخضع لشروطها برحابة صدر، ونمضي يومنا بصمت مع رحلة التّجاوب معها،يكون الحضور عبارة  عن آلات تحرّك أيديها على الحواسيب ، أو الهواتف الذّكية، وكلّما ازداد ربح تلك الشّركات التي تدير تلك البرامج  ازداد الخلل عن طرق ابتكار أشياء جديدة تظهر فيها الخلل الذي يسكنك.

الصّور الشّخصية، الحفلات، قصص الحبّ، التطورات التي تطرأ على حياتك، وكل الرّسائل التي توجّهها  بشكل مباشر أو غير مباشر موجودة على صفحتك. الرسائل تصل كما هي حتى لو حاولت تمويهها. عندما تكشف داخلك يكون قد انتهى سرّ الحياة الّي  تحمله يجعلك جميلاً ،أو  عميقاً ، أو صاحب معاناة. معاناتك تبثّها للصفحة، والتعاطف يأتيك منها . أنت وحيد ، معزول تفتقد إلى يد حقيقيّة تربّت على كتفك ، وإلى أشخاص حقيقيين يحاولون التّخفيف عنك، وحتى إلى صوت شجار أولادك .

الإدمان على الانترنت، وعلى الجلوس طويلاً على صفحات الفيس بوك وتويتر وباقي وسائل التّواصل لا يقلّ خطورة عن الإدمان على الكحول  والمخدراتلدرجة أن المدمنين أصبحوا ينقسمون إلى فريقين. فريق يكتب تفاصيل يومه، وفريق لا يكتب إلا القليل ، ويمضي يومه يبحث عن الأشخاص الذين يكتبون  وهفواتهم ، ويضمر لهم المكائد ربما.

بينما تقوم بالبحث عن عظمتك بين ثنايا الفيس مثلاً يأتيك تطبيق يقول لك من هو الشّخص الهام في حياتك، وتضع التّطبيق على الفيس، وينظر ابنك فيراه. ليس هو الشّخص الهام وفق التطبيق، وتكون أوّل إشارة إلى علاقة النّفور .

وفق آخر الإحصائيات فإن الفيس بوك هو سبب أساسي في ثلث حالات الطّلاق، وجزء من حالات القتل، ونصف حالات العداء بين الأقارب والأصدقاء، وسبب أساسي في انتشار ثقافة الكراهية,

أغلب النّاس الذين يعملون في أعمال جسدية أو ذهنية لا وقت لديهم للجلوس على وسائل التواصل ، وبعضهم لم ينشئ حتى حساباً على تلك الصفحات ، وأغلب الذين يبدؤون يومهم بصباح الخير على تلك الوسائل  وينهونه بكتابة تصبحون على خير هم عاطلون عن التفكير يأكلهم الفراغ، وكلّما أغلقوا الحاسوب لحظة عادوا إليه .

نجلس ساعات طوال على الانترنت، ونجلب لأطفالنا الألعاب الالكترونية التي تجعلهم معزولين أيضاً وتصبح نفوسهم مريضة .

نفتقد اليوم إلى حضور حقيقي للأصدقاء في حياتنا، للأهل، كما نفتقد إلى التعبير عن مشاعرنا أمام أناس من لحم ودم، ولا يكفي أن نبث صور الحب والامتنان. هو وجع حقيقي ، وغياب للإنسان في داخلنا وحياتنا على السّواء.

هل يمكن أن نعود لأنفسنا، ونواجه كل متاعبنا بشجاعة ؟ أم سيكون في المستقبل مصحات لإعادة تأهيل الإنسان على عيش الحياة الحقيقية؟

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.