بقلم : نصر الصايغ
هل هذه مصر؟ تاريخها العريق لا يدلّ عليها. مواقفها محطات فارقة. صنعت تاريخها وتركت أثرًا. قياداتها ريادات وصولات وآفاق. شعبها يؤكّد حضوره بصمت الأقوياء وفيض من العطاءات. كانت مصر دائمًا أكبر من أرضها. خريطتها في السياسة مترامية الأطراف. عروبة بجدارة الحضارة والقضية. اتساع يصل أفريقيا بآسيا والعالم. ما كانت يومًا أقلّ من أرضها، ومن طموح العرب بأن تكون الأولى، ومن بعدها الآخرون، كلّ الآخرين. فهل هذه مصر؟
كأن هناك محاولة لإخراج مصر من تاريخ الريادة، وهو تاريخها الناصع. حاول أنور السادات أن يأخذ مصر معه إلى «كامب ديفيد»، وقّع المعاهدة ولم يوقّعها الشعب المصري. ظلّت مسألة التطبيع مع «إسرائيل» في خانة الحرام السياسي. شعب مصر لا يشبه في أزمنة التخلّي قادته. يعبر ولا يقفز. حاول حسني مبارك أن يخدّره. وضعه في مسارٍ لا عودة عنه ولا نفع فيه. حالة اهتراء وفراغ عصفت بمصر. فجأة، تحوّلت «ساحة التحرير» إلى قرارٍ بتحرير مصر من الاستبداد. مصر تستحقّ شعبها، هكذا قال «الربيع المصريّ»، وشعبها يستحقّ الحريّة والكرامة والرغيف…وكان ما كان. فماذا يحصل الآن، أهذه هي مصر؟
المسألة لا علاقة لها بالانقلاب على الثورة أو بإخفاقات «الربيع المغدور». هذا الذي
يحدث في مصر انقلاب على التاريخ وعلى الأحجام. إذ لا بدّ من مصر أولاً. يوم خرجت مصر من فلسطين، انهار النظام الإقليمي العربي. لم تعد مصر ترفع إصبعها مع السادات. كلامها مرفوض وموقفها تخلّ. ومع ذلك، كان لا بدّ منها. أحجمت عن حلّ في حرب لبنان. عبد الناصر أنهى حرب لبنان بحكمة وحزم. عاش لبنان الحقبة الناصريّة بـ «زواج ماروني» مع الشهابيّة. من دون مصر تختلّ دول الإقليم. دمشق وبغداد شقيقتان في العقيدة، عدوّتان في السياسة، مستنفرتان وفلسطين خلفهما. «الجماهيريّة» ألغت ليبيا وأخذتها إلى جنون العظمة وغرائب المواقف. تضاءلت الجزائر. تحوّلت «الرجعيّة» إلى مرجع لا بدّ منه، مالاً ووهابيّة. انتشرت في فراغ مزدوج: فراغ الخزائن وفراغ الروح والقضايا.
في غياب مصر، اختار كلّ نظام بوصلته إلى الجحيم. تسبّبت السياسات المتهوّرة لهذه للأنظمة باندلاع حروب، كانت فاتحتها مع إيران، وخاتمتها باحتلال العراق وتدميره، وجرّ البلاد إلى الخراب والدمار. وفي غياب الموقع والمرجع، بدأت الأمّة تنسحب لصالح «الآيات» ولكلّ «آية» سيفٌ يستمدّ قوّته من حجج «يوم السقيفة». وها هي الحرب نسخة لما مضى. قبل أفول مصر، ما كانت الساحة لا سنيّة ولا شيعيّة. فهل هذه مصر؟
كأن هناك محاولة لإعطاء مصر طاقة أقل: حصة في النيل تتضاءل، حصّة في فلسطين تنحسر لصالح حصار مشترك على غزّة. «غزّة مصر» تختنق. حصّة في الإقليم تبور. حصّة في «مضائق تيران» بتعويضٍ «أخويّ» منجز ومخزٍ… ما حدث حتى الآن منذ تأميم «ميدان التحرير» بالقوة وتحويله إلى حصنٍ مصونٍ ومحروس وممنوع، يمعن النظام في رسم صورة لمصر الخائفة والمخيفة… فهل هذه مصر؟
بيت القصيد الآن، القبول المصريّ بالدور الرديف. تحوّلٌ كبير هذا. السعوديّة تحتضن مصر. هذه حقبة جديدة غير مسبوقة. التخلّي المصري دفع السعوديّة الى المقدّمة. دمشق انسحبت الى دارها. العراق يغرق ويغرق. إيران منافس وليس حليفًا. قطعت السعودية خطوط التواصل معها: إمّا أنا وإمّا إيران. مصر الناصريّة كانت النقيض للسعوديّة. صراع بين تيّار تحرري غير منحاز وتيّار رجعيّ ملحق ومحروس ومحتضن من أميركا والغرب… السادس من حزيران قصم ظهر مصر الناصريّة. بعده باتت السعوديّة صديقًا رديفًا ضروريًا، وما تعافت مصر من نكستها أبدًا. وعدهم السادات بـ «سلامٍ» وانفتاح وبحبوحة. تحقّق السلام مع إسرائيل وازداد الشعب المصريّ فقرًا. مبارك أكمل السقوط: مصر جنّة لقلّة وجحيمٌ لأكثرية. وعد «الربيع العربي» أخفق فورثه الصراع بين «العسكر» و «الإخوان». فاز العسكر وما فازت مصر بالطريق إلى الحرية والكرامة والرغيف. فراغٌ روحيّ وفكريّ في ظلّ حكمٍ يتحكّم. طوق نجاة جاءها من السعوديّة. فكان ما كان، فهل هذا هو دور مصر؟
كسبت السعودية بما «وهبت». أخذت مصر معها إلى جديدٍ استراتيجيّ في المنطقة. السعوديّة دولة حربٍ بحاجة إلى حلفاء إقليميين. أميركا لم تعد حليفًا مطيعًا. انتظم الحلف السعودي الإسلامي خليجيًا، وانضمّ إليه ما كان يومًا يدعى العملاق المصري. ما عادت السعوديّة على سياساتها الماضية، تتقدّم الصفوف وتقول: «الأمر لي». وها هي تحارب عن جدّ وبقوّة، تقول كلمتها فتطاع. الجامعة العربيّة رهن هاتفها الجوّال. إنها الدولة الجديدة بثيابها القديمة وتقاليدها المهترئة. قوة إقليميّة لا من من أجل الحريّة والكرامة والرغيف بل لحماية أنظمة ضدّ الحريّة والكرامة والعيش الكريم. حلفٌ بلا قضيّة يقاتل كل القضايا.
هذه هي السعوديّة. «السخاء» السعودي كوفئ بالجزيرتين والجسر عابر السياسات قبل التجارة. هذه هي السعوديّة التي سطت على حقّ تصنيف أعدائها بالإرهابيين وحقّ تصدير فتاوى التكفير والترهيب بحق المقاومة في لبنان. هي تطلب ومصر تنفّذ . فتقيل «المنار» عن قمرها. هذه هي السعوديّة، فهل هذه هي مصر؟ صعبٌ جدًا أن يكون المستقبل كذلك، ومن الأصعب أن تكون مصر أقصر من قامتها…غدًا أو بعده بكثير، قد تتغيّر المعادلة فتعود مصر إلى مكانها ومكانتها.
الوسومالسعودية
شاهد أيضاً
من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!
كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …