مدحت موريس
يوم واحد فى العام نعيشه ونتمتع به ثم نجتر ذكرياته بقية ايام السنة حتى يحين موعد مجيئه قى العام التالى. المناسبة الرسمية اسمها شم النسيم او عيد الربيع او اليوم الذى يلى احتفالنا بعيد القيامة المجيد باعتبارنا من اقباط مصر الارثوذوكس….لكنه فى جميع الاحوال ومع كل المسميات هو يوم تجمع العائلة الكبير…هذا التجمع الذى يحمل طقوساً توارثناها اجيال بعد اجيال.
هكذا كنت احكى لشباب العائلة واروى لهم ذكريات الاعياد والتجمع العائلى وهم فى المقابل يشعرون بسعادتى وانا استرجع تلك الذكريات ويشاركوننى السعادة بل واكاد اشعر انهم يعيشونها مثلى تماماً فالانتماء الاسرى لا ينقصهم فقد تربوا ونشأوا مثل جيلنا والاجيال السابقة لنا على هذا الانتماء.
رغم تشتت افراد العائلة فى انحاء محافظات مصر الا انهم جميعاً كانوا حريصين على التجمع فى هذه المناسبة فى مدينتنا الساحرة الاسكندرية فبالاضافة الى التجمع العائلى المقدس لدينا جميعاً فهناك سبب آخر لا يقل قوة وهو ان الاسكندرية تحتضن الحدائق الملكية…المنتزة او قصر المنتزة وهل هناك مكان اكثر جمالاً منها لنقضى بها يوم شم النسيم؟
فى اواخر الستينات واوائل سبعينات القرن الماضى شهدت حدائق قصر المنتزة تجمع عائلتنا السنوى فى يوم شم النسيم…وليوم شم النسيم طقوسه ولعائلتنا العريقة ايضاً طقوسها فيمتزج الطقسان ليشكلا طقساً جديداً عشناه على مدى سنوات تلك الفترة حيث يبدأ اليوم قبل السابعة صباحاً ولأن من يملك سيارات خاصة من افراد العائلة قليلون فى هذا الوقت فكنت ترى سيارتين ملاكى مع عدد من تاكسيات الاسكندرية البرتقالية الشهيرة واقفة على مدخل حدائق قصر المنتزة لشراء تذاكر الدخول وكان سعر التذكرة وقتها باهظاً حيث بلغ ثلاثون قرشاً للفرد الواحد ونستهلك على البوابة بعضاً من الوقت لتعنت المسؤول عن الدخول واصراره على احتساب تذكرة لبعض الاطفال الذين انا واحد منهم حيث يصر المسؤول على اننا ر غم طفولتنا الظاهرة – فى السادسة عشر بينما يقسم افراد العائلة باننا لم نتجاوز العاشرة وينتهى الجدال او الفصال سمه ما شئت بأن ندفع ثمن عشرين تذكرة بينما يضع فى ايدينا خمسة عشر تذكرة ويضع قيمة الخمس تذاكر فى بطنه بعدها يتحول الجدل والخلاف الى ضحكات وابتسامات وتهنئة بالاعياد والمناسبات الجميلة. تجتاز السيارات الحدائق ومن النافذة المفتوحة تتسلل نسمات الصباح الباردة فتلسع الوجوه لسعة محببة بينما نتنسم رائحة الحشائش الخضراء التى تم قصها منذ ساعات قليلة وقد امتزجت برائحة الورود مختلفة الاشكال والالوان والتى تزين الحدائق فى صورة يصعب على اى فنان تصويرها بنفس الدقة.
مرة اخرى نتوقف عند بوابة الجرينلاند وهى منطقة خاصة داخل حدائق المنتزة وقد اخترناها لتكون مكان التجمع والاحتفال نظراً لخصوصيتها وبالطبع كان علينا ان نسدد رسوماً اخرى للدخول. فى الجرينلاند انطلق الجميع بعد السلام والتحيات و ننتشر فى ارجاء المكان بعدما احتللنا بعض الطاولات ووضعنا امتعتنا، بدأت سيدات العائلة فى تحضير الفطور وبعض المشروبات الساخنة…الحقيقة هو مشروب وحيد ساخن..الشاى ولا توجد قهوة بالطبع فلم نكن نعرف سوى القهوة التركى والذى يصعب تحضيرها فى هذا المكان اما القهوة سريعة التحضير واخواتها مثل النسكافيه والكابتشينو فهى مشروبات ان وجدت فلا يتم تقديمها الا فى الكازينوهات والمطاعم.
البيض الملون يتصدر المائدة مع انواع مختلفة من الاجبان وبعض الحلويات من كعك ومخبوزات العيد ولاننا عائلة راقية فلا يمكن ان نتناول الفسيخ او الرنجة فى الاماكن العامة بل نأكلها فقط فى بيوتنا. يظهر جهاز التسجيل مع احد شباب العائلة هذا الاختراع الجديد الذى قضى على الريكوردر ذو البكرات الكبيرة وحقيبته الكبيرة الثقيلة…جهاز التسجيل الجديد او الاختراع الجديد باشرطة تسجيل حجمها اصغر من كف اليد…يلتف شباب العائلة حول الجهاز الجديد ويعلو صوت العندليب عبد الحليم حافظ بأغنيته الجديدة والتى شدا بها ليلة امس وسهر الشباب معه حتى النسمات الاولى من صباح يوم شم النسيم ليسجلوا الاغنية الجديدة ويسمعونها على مدار اليوم.
اخيراًحانت اللحظة المرتقبة والتى كنت انتظرها انا وصغار العائلة ….مباراة كرة القدم وبدأ الاخوان رفعت وفرج فى تقسيمنا الى فريقين يقود كلا منهما فريقاً فكان رفعت يقود الصغار بينما يقود فرج فريق الشباب وقد اذهلنى رفعت بمهاراته الكروية الفردية وبخفته فى الجرى بالكرة رغم جسده الممتلىء ولم يكن يغضبنى منه الا زملكاويته اما فرج فقد كنت احب اللعب ضده رغم انتمائه الكبير والشديد للنادى لاهلى الذى اعشقه…كان يغيظنى استغلاله لطول قامته فى احراز الاهداف برأسه لكنى اكتشفت عندما كبرت انه لم يكن طويل القامة بل نحن الذين كنا قصاراً وبالرغم من هذا فاننى كنت اقفز عالياً امامه واخطف الكرة منه وهو يركض خلفى متوعداً و مهدداً وهو غارق فى الضحك…ثم فجأة تتوقف المباراة ولا تكتمل ابداً بعد ان اقتحمت سيدات العائلة وبناتها الملعب وخطفن الكرة وبدأن فى تقاذفها وهم يضحكون…
استشطت غضباً انها كرتى الجلدية…وقد بدأ فريقنا فى التقدم وتوقعت ان يبدى اللاعبون الكبار غضبهم مثلى لكنهم للاسف كانوا يضحكون بل وبدأوا فى تقاذف الكرة معهم…ولم تكتمل المباراة والحقيقة ان المباراة الغير مكتملة هى جزء من برنامج شم النسيم السنوى فلم يحدث ان اكملنا مباراة لكرة القدم فى يوم شم النسيم….مرة ثانية يخلدون للراحة بينما يتتسلل بعض الشباب عبر البوابة الداخلية الى منطقة المعمورة وشاطئها الجميل و بالتأكيد مطعم ويمبى الشهير وهو مع المكسيم اشهر معالم المعمورة فى ذلك الوقت بل ومن الممكن القول بأن مطعم ويمبى كان المطعم الاشهر فى الاسكندرية –
قبل غزو كنتاكى وماكدونالدز وهيرفى وكل محال الوجبات السريعة – وسندويتش هامبورجر ويمبى يمكن القول انه اول ظهور للبرجر بصفة عامة فى الاسكندرية ولم يكن احد يهتم وقتها بالترجمة الحرفية والتى معناها برجر لحم الخنزير والعياذ بالله…والحقيقة انه كان لحم بقرى لكن المصطلح المتعارف عليه كان الهامبورجر وهو المصطلح المنقول عن الغرب…ينتهى يوم شم النسيم بالنسبة لنا فى الثانية او الثالثة بعد الظهر حيث نتناول الغذاء فى منازلنا بعد ان تكون الحديقة قد امتلأت عن آخرها ومع الزحام كان الصخب واصوات الطبول يأتيان من الحديقة العامة لقصر المنتزة والتى تفصلها عن الجرينلاند اسوار من الاشجار القصيرة الخضراء وليست مبانى قبيحة تفسد الطبيعة والمشهد الجمالى. هكذا كان شم النسيم فى السبعينات بعدها تبدلت الامور قليلاً او تطورت فكنا نقضى ليلة شم النسيم ثم اليوم باكمله فى شقة مستأجرة بالمعمورة ولم نكن نغادرها الا لنتمشى قليلاً فى الصباح الباكر نظراً للزحام الشديد والصخب فى الشوارع طوال ليلة يوم شم النسيم.
انتهيت من حكاياتى قبل ان يشعر شباب العائلة الجديد بالملل وكنا قد وصلنا لحديقة قصر المنتزة، كانت اللوحة الفنية لا بأس بها المساحة الخضراء واحواض الزهور الجميلة لكنها كانت صورة بلا رائحة فلا رائحة للحشائش او للزهور وكأنها زهور بلاستيكية …جلست مع الشباب وفى حركة استعراضية اخرجت سى دى لاحدى اغنيات عبد الحليم …نعم سى دى وليس شريط كاسيت فلا بد من ان اواكب التطور والتقدم ، اخذه احدهم منى وقام بتشغيله لكنى وجدت اصواتاً من حولى…. اصوات غريبة وعالية لاغانى اشد غرابة اما الاغرب والاغرب فهى حالة الانسجام والتجاوب الشديدة لمن حولنا مع تلك الاصوات القبيحة والكلمات السوقية التى يرددونها فى تلك الاغانى وبات صوت عبد الحليم بعيداً بل ضاع وسط هذه الاصوات…حاولت تجاهل ضياع جزء من استعادة ذكريات الماضى وانتبهت للشباب الذين كانوا يتحدثون عن الاعداد لمباراة لكرة القدم ..فانحشرت بينهم واخبرتهم اننى ساشاركهم اللعب ولم يمانعوا بل اسعدتهم مشاركتى لكنى نظرت حولى وتساءلت اين الكرة التى سيلعبون بها بل اين هو الملعب الذين سيلعبون فيه وكل متر فى الحديقة ممتلىء عن آخره لكنى وجدت احدهم وقد اخرج من حقيبته جهاز تليفزيون صغير ثم جهاز بلاى ستيشن !!!…فابتسمت وادركت مدى سذاجتى ومدى عدم استيعابى للحاضر. وعدت لاسبح مع الماضى وذكريات شم النسيم ….فبعد ما كان افراد العائلة مشتتين فى محافظات مصر اصبحوا اليوم مشتتين فى قارات العالم البعض فى افريقيا وكثيرون فى امريكا الشملية وقلة فى استراليا وايضاً فى اوروبا ،رحل معظم الكبار واختفى الشباب وشاخ الصغار و لكن يبقى الماضى جميلاً فهكذا نحن دائماً لا نشعر بجمال اليوم الا بعد ان يصبح ماضياً.
بقلم مدحت موريس
(voicy2005@yahoo.com)