الكاتب : مايكل عزيز البشموري
كم قسا الظلم عليك ؟
أطل القرن التاسع عشر على الاقباط ببصيص من النور ، ناظرين إليه بكل رجاء ، فهم يصارعون الموت من أجل البقاء ، فتلك الامة الجريحة ضحت بأعز ما تملك ، للحفاظ على الايمان ، فتحول أصحاب الارض والحضارة عبيداً أزلاء ، يخدمون فيها أسيادهم من البدو الأشقياء ، وبمعركة البقاء يتمسك المرء بأي شيئاً يراه ، ليحافظ على الحياة ، فكل المعطيات كانت تشير ، بأن تلك الامة مصيرها الموت والزوال ، فالكنيسة كانت مثل الأسد الجريح ، غير قادرة على النهوض من جديد ، لمناطحة خصومها الأشداء .
فهل ستُبصري يا كنيسة الله نور الامل مجدداً لتنهضى من السُبات ؟ أم الموت وحده سيكتب لكى الختام ؟ أجيبني يا كنيسة الله ؛ يا عروس المسيح ؛ يا مَن بحُبك كتب إليك نظير ، ليتساءل بحزنا عميق : ” كم قسا الظلم عليك ؟ كم سعى الموت إليك ؟ كم صدمت باضطهادات و تعذيب و ضنك ؟ كم جرحت كيسوع بمسامير و شوك ؟ عذبوك و بنيك طردوك و نفوك .. عجبا كيف صمدت ضد كفران و شرك ؟ هو صوت ظل يدوي دائما في أذنيك .. يشعل القوة فيك حين قال الله عنك … فإطمئنى و استريحى إن أبواب الجحيم سوف لا تقوى عليك ” .
* الكنيسة القبطية والقيصرية الروسية :
دقت طبول الحرب بين القيصرية الروسية والدولة العثمانية ، لتدخل البلدان فى حرب بلا هوادة بسبب جزيرة القرم المتنازع عليها ، ليستعد كلى الطرفين في حشد حلفائهم وأتباعهم للحرب المرتقبة بينهما ، كان الروس تداعبهم المشاعر الارثوذكسية ، واختلطت هذه المشاعر في بعض الأحيان بعواطف دينية متعصبة، متمثلة في حماية الأرثوذكس في جميع أنحاء العالم ، والسيطرة على مدينة القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح، وكذلك السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين. ولهذا السبب أعلنت روسيا فرضها الحماية على الاقباط الارثوذكس فى مصر .. فيا ترى ماذا سيكون رد بابا الاقباط إثر تلك الحماية ؟ – الإجابة عند السفير الروسى !
أراد قيصر روسيا نيكولاي الأول ، تحرير الأقباط بمصر من سطوة ونفوذ الحكم العثماني على البلاد ، فقام بإرسال سفيره الروسي إلي بطريركية الأقباط الأرثوذكس ، ليعرض مقترح حماية قيصر روسيا على أقباط مصر ، ومناقشة هذا العرض مع البابا القبطى ، حينها كان البابا بطرس الجاولي (المائة والتاسع) ، بطريركا على الكنيسة القبطية وقتئذ ، وكان رجلا بسيطا يتسم بالوادعة ، البشاشة وتواضع القلب ، فذهب إليه السفير الروسي مع مترجمه الخاص إلى الدار البطريركية ، وقد ظنا في بداية الامر أنهم سيرون رئيس أكبر كنيسة أرثوذكسية بأفريقيا بحالة تدل على عظمة ، وكانت المفاجأة إنهم رأو إنسانًا بسيطا جالسا على الارض يحمل الكتاب المقدس بين يديه ، ويرتدى زعبوطا خشنا وحوله مقاعد مبعثرة : وقد تساءل السفير في عقله : ” هل يمكن أن يكون هذا الرجل البسيط بابا الأقباط ورئيس أعظم كنيسة مسيحية بأفريقيا ” ؟!
– السفير الروسي في شك : “هل جنابكم بطريرك الاقباط “؟!
– البابا بإتضاع : ” أنا البطريرك بنعمة المسيح .. تفضلوا بالجلوس ” .
أندهشا السفير ومترجمه وقاموا بتحية البابا كعادتهم في بلادهم ، وبدأ السفير ينظر للبابا وهو لا يصدق أنه يجلس امام بطريرك وتساءل : لماذا يعيش بابا الأقباط هكذا ، وبتلك البساطة ولا يهتم بمركزه في العالم المسيحي ؟ .
– البابا : ليس الخادم أعظم من سيده ، فأنا عبد يسوع المسيح الذي اتى إلى العالم وعاش مع الفقراء ، وكان يجالس الخطاة ولم يكن له اين يسند رأسه، أما أنا فلي مكان أقيم فيه واحتمى به من حر الصيف وبرد الشتاء .
تعجب السفير من حديث البابا ، وأبتدأ يعرض عليه حماية قيصر روسيا نيكولاي الأول على أقباط مصر .
– البابا ببساطة : ” كم سيعيش ملككم من الزمان ” ؟
– السفير مستغرباً : يمكن سبعون ، ثمانون ، تسعون أو مائة سنة .
– البابا : وماذا بعد ذلك ؟
– السفير : سيموت يا سيدي كما يموت سائر البشر .
– البابا : إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت ، وأما نحن نعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله .
– السفير : ولكن عرض قيصر روسيا سيحمي طائفتكم يا قداسة البابا وسيجعل الاقباط يعيشون بأفضل حال .
– البابا بكل إيمان : الإتكال على الرب سيدي السفير ، أفضل من الإتكال على الملوك والرؤساء .
بعد هذا الحديث شعر القنصل الروسي أنه أمام بطريرك قديس ، فأخذ يقبل يدى البابا وتركه وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط .
وعندما ذهب السفير الروسي لزيارة محمد علي باشا ، سأله الوالى قائلاً : ما هو الشيء الذي أعجبك في مصر ؟؟ .
– السفير : لم تدهشني عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب بقدر ما هزني ما رأيته في بطريرك الأقباط .
ولما سمع محمد علي باشا بما دار في تلك المقابلة ، أبتهج كثيرا وذهب إلي البابا بطرس الجاولي ليهنئه على موقفه العظيم وما أبداه من وطنية وإخلاص ،
– البابا بتواضع : لا تشكر يا سيدي من قام بواجبه نحو بلاده وشعبه .
– محمد علي : لقد رفعت اليوم شأنك وشأن طائفتك وأبناء شعبك ، فليكن لك مقام محمد علي في مصر، ولتكن مركبة معدة لركبك كمركبتي.
بعد تلك الواقعة تيقن محمد علي باشا أن الأقباط شعب مخلص وليست لديهم أطماع ، فإعتمد عليهم في بناء دولته ، وقام بإلغاء الجزية التي ظل يدفعها المسيحيون طيلة الف عام ، وعين الأقباط بالدوائر والمصالح الحكومية ، وأرسل البعض منهم لبعثات دراسية خارج البلاد ، وأنخرط الأقباط بالجيش المصري . فضُمنت حقوق الاقباط وتمتعوا بالحرية السياسية كمواطنين مصريين من الدرجة الاولي .
والمفارقة العجيبة ، نشبت حرب القرم سنة 1853 بين روسيا والدولة العثمانية وقادت تلك الحرب إلى هزيمة القيصرية الروسية أمام تحالف الدول الأوروبية مع تركيا ، والذى على إثرها أقدم قيصر روسيا على الانتحار ، ويعتقد العديد من المؤرخين أنه قام بقتل نفسه بسبب هذه الحرب حيث أنه مات مسموما إثر ورود أخبار هزيمة الجيش الروسي في إفباتوريا ليخلفه أبنه القيصر ألكسندر الثاني … صدق أبينا بطرس الجاولى عندما قال : ” الإتكال على الرب أفضل من الإتكال على الملوك والرؤساء ” .
للحديث بقية
الوسوممايكل عزيز البشموري