مدحت موريس
يحب يوم الثلاثاء، فجدوله ينتهى بعد الحصة الرابعة يغادر المدرسة بعدها ويمتلك اليوم كله….استقل القطار عائداً الى المدينة فقدره كمدرس مبتدىء ان يدرس فى القرى والريف قبل ان ينتقل ويدرس فى المدن الكبرى ويصنع اسماً مرموقاً فى عالم التعليم، كان يعلم ان الطريق شاقاً لكنه كان مؤمناً بطريقه وكان ايضاً يؤمن بانه لا تعارض بين آدائه لرسالته التعليمية وسعيه للتميز وتحقيق مكاسب مادية…فقد وضع نصب عينيه ان يبتعد عن طريق الدروس الخصوصية وبنى احلامه المادية على التدريس فى المعاهد الخاصة التى تفتح ابوابها لغير القادرين من الطلاب اما هدفه الاسمى فكان تأليف كتاباً يتضمن شرحاُ وافياً لمنهج الوزارة بالاضافة الى كتاب آخر للاسئلة واجاباتها النموذجية….
كان هذا هو حلمه الكبير منذ كان طالباً جامعياً مقتدياً باستاذه الكبير جمال راتب والذى درس نفس المادة العلمية لسنوات كان خلالها النموذج المثالى للمعلم بل وحتى بعد تقاعده ظلت مؤلفاته الاكثر طلباً من الطلبة لسهولة منهجه فى تبسيطه للمادة العلمية وايضاً لعدم ارتفاع ثمنها….ولانه من ابناء الطبقة الكادحة فقد صار الاستاذ جمال راتب هو الاب الروحى له وتقرب اليه كثيراً يطلب ارشاده وبخبرة المعلم الكبير ادرك الاستاذ جمال مدى حبه لعلمه وعمله فلم يبخل عليه برأى او نصيحة طوال فترة دراسته وان نسى فلن ينسى كلمة الاستاذ جمال له بعد تخرجه حينما اختصه بقوله انه يرى فيه بدايات كفاحه فما كان منه الا وان نهض وكاد يقبل يد استاذه – الذى سحب يده بسرعة – فقال له انه يتمنى لو حقق جزءاً يسيراً مما حققه معلم الاجيال جمال راتب. لم تكن المرة الاولى التى يتذكر فيها تلك الاحداث بل تكاد تكون حكاية يتذكرها يومياً فيتوهج طموحه وتتراقص الآمال امام عينيه…جلس على مقعد القطار الخشبى واخرج جريدته وكعادة مصرية اصيله يتوارثها الابناء عن الآباء افرد صفحة الوفيات وبدأ فى قراءتها بتمعن…لكن جسده اهتز مع اهتزاز القطار وافلتت الجريدة من بين يديه وتبعثرت السطور والكلمات وهو يقرأ نعياً كان ابعد ما يكون عن تخيله ان يقرأه فى تلك اللحظات بالذات….تنعى اسرة راتب فقيدها وفقيد العلم الاستاذ المربى الفاضل جمال راتب وستشيع الجنازة اليوم من……الخ…تماسك واكتفت عيناه ببريق الدموع التى ابت ان يراها ركاب القطار…نزل فى محطته ذهب الى منزله وبعد حمام سريع ارتدى ملابسه وذهب لمحطة القطار ذاهباً الى القاهرة ليشارك فى تشييع جنازة استاذه ومعلمه. تعطل القطار للاسف، سيتأخر عن موعد الجنازة ، نظر الى ساعته اكثر من مرة فى فترة قصيرة تمنى لو تأخرت الجنازة صحيح انه قد لا يصادف احداً يعرفه ولن يعاتبه احد سواء شارك فى تشييع الجنازة او لم يشارك لكنه دافع داخلى وواجب املاه عليه ضميره ومشاعره وعقله الذى نما من خلال استاذية الاستاذ الفاضل جمال راتب الذى صار يحمل لقب “الفقيد”. اخيراً استجاب القطار لدعواته ووصل الى المحطة متأخراً ساعة واحدة فقط لكنه ركض من المحطة حتى مكان تشييع الجنازة فوجد النعش محمولاً بعد ان تم آداء الصلاة….حمدالله انه استطاع اللحاق بالنعش وبالفقيد قبل اتمام مراسم الدفن وبدون ان يشعر وجد نفسه وسط المشيعين ينحنى على النعش ويقبله اكثر من مرة وغلبته الدموع وهو يحتضن نعش استاذه الجليل حتى وجد اكثر من يد ترفعه فى حنان من فوق النعش وتربت على كتفه لتهدىء من روعه…..اتجه الموكب نحو المدافن بينما سأل هو عن مراسم العزاء والتى عرف انها ستكون بعد الغروب فى دار المناسبات بنفس المسجد الذى شُيعت منه الجنازة…وفضل الا يذهب الى المدافن التى رأى ان يقتصر الذاهبون اليها على الاهل والمقربين وذهب الى احد المقاهى حيث تناول ساندويتشاً من الفول وآخر من الطعمية مع كوب من الشاى وعاود قراءة النعى عدة مرات وكان نعياً قصيراً يتناسب مع طبيعة الاستاذ جمال راتب الذى لم يبحث يوماً عن شهرة بقدر ما كان يهمه ان يؤدى رسالته كأحسن ما يكون. مضى الوقت سريعاً وقبل الغروب وقبل ان يحضر احد حتى من اقارب الفقيد كان جالساً فى سرادق العزاء لم يهمه ان يراه احد فقد يتذكره احد مصادفة وقد لا يعرفه احد على الاطلاق ..كل ما كان يهمه هو ان يؤدى واجباً اخلاقياً تجاه استاذه ومعلمه…بدأ المعزون فى التوافد ولم يكن غريباً الا يتعرف على وجوه المعزين فهو لا يعرف احد من اقاربه او من جيرانه او حتى اصدقائه لكنه تمنى ان يرى ولو وجهاً واحداً من الاساتذة القدامى الذين بدوا وكأن القدر غيبهم جميعاً عن الحياة…بدأ احد رجال الدين يلقى كلمة تركزت على الاخلاق والعطاء وكم كان هذا ينطبق تماماً على الفقيد واستمر الرجل فى بيان اهمية العطاء فى الدنيا ومقابله فى الآخرة بين تصديق المعزين بهز الرؤوس او بمصمصة الشفاة وبينما هو منصتاً بدأ يرى بعض الوجوه التى خُيل اليه انه يعرفها…ثم تعددت الوجوه المألوفة له….ياالله انها وجوه تليفزيونية لبعض الفنانين والفنانات المشهورين او انصاف المشهورين…استاء من تركيزه على الحاضرين وبدأ ثانياً فى الانصات للمتحدث الذى كان رجلاً عادياً وليس رجل دين بدأ فى الحديث عن مآثرواعمال البر والخير للفقيدة….الفقيدة!!!!!؟؟ اعتقد انه سمع خطأ او ان المتحدث اخطأ لفظياً لكن تكراره لكلمة الفقيدة وتوكيده لكلمة المرحومة اصابه بالقلق وشعر انه فى المكان الخطأ بل وشعر ان كل المعزين واقارب المرحومة علموا انه لا ينتمى لهذا السرادق…نهض مسرعاً فصافح صفاً من اقارب المرحومة واسرع خارجاً ثم قرأ لافتة كانت موضوعة خارج السرادق وقد كُتب عليها ” عزاء المغفور لها باذن الله الفنانة سوسو حمدى” لم يستطع ان يمنع نفسه من الابتسام ولم يكن يعرف ان الراقصة سوسو حمدى قد ماتت فى نفس اليوم ثم سأل احد المسئولين فى دار المناسبات عن مكان عزاء الاستاذ جمال راتب فاخبره انه فى القاعة الصغرى…جلس فى السرادق وتساؤل ساخر يغمره عن النعش الذى احتضنه وبلله بدموعه هل كان نعش جمال راتب ام هو نعش الراقصة سوسو حمدى!!!!!!؟ ثم اتت كلمات احد المتحدثين فى السرادق وكان احد رجال الدين لتخرجه عن تساؤلاته الساخرة و تركزت كلماته على الاخلاق والعطاء شب بجزعه لاعلى ناظراً الى المتحدث فوجده نفس الرجل الذى قدم من سرادق الراقصة ثم استرسل موضحاً اهمية العطاء فى الدنيا ومقابله فى الآخرة بينما يصدق المستمعون له على كلامه بهز الرؤوس ومصمصة الشفاة.
واجب عزاء
بقلم مدحت موريس
(voicy2005@yahoo.com)