الكاتب : مايكل عزيز البشموري
* عصر التنوير وهلاك المماليك :
بدأ عصر التنوير المصرى متأخرا ، لتسبقه الثورة الفرنسية العلمانية بمطلع القرن الثامن عشر ، لتتوالى النهضات المجتمعية والعمرانية تجتاح البلدان الأوربية بعد ذلك ، وبدأ عصر التنوير المصرى ببدايات الربع الاول من القرن التاسع عشر ، بعد إنتهاء الحملة الفرنسية المثمرة على مصر ، وتولى محمد على باشا حكم البلاد آنذاك ، لتثمر حينها ثمار التنوير والانفتاح فى النصف الثانى من القرن ذاته ؛ ليبدأ قرن ميلادي جديد ينتقل فيه المصريين من عصور الجهل والرجعية إلى عصر التنوير والانفتاح ، تحت قيادة حاكم عادل ومستنير ، وقبل حكم ” محمد على “ كانت مصر تشهد حالة من الضياع والانفلات الأمنى، و عدم الاستقرار سياسياً ، نتيجة التحالف المملوكى العثمانى ، ويتحدث الكاتب لويس عوض عن تلك الحقبة بقوله : ” قامت دولة احتكارية يتركز فيها الاقتصاد فى أيدي السلاطين ، بما فى ذلك سك العملة والزراعة والصناعة والتجارة والنقل المائي “ ، مما أدى لانهيار الاستثمار الفردى ، فأصبح النظام الحاكم المصرى مصدر جباية تتربح منه الدولة العثمانية وسلطانها ، الذى بدوره كان يُعين المماليك لحكم مصر بمقابل من المال ، ويقول الاستاذ فاروق القاضى : ” لقد تولى اثنين وعشرون واليا على مصر الولاية من الآستانة فى النصف الاخير من القرن السابع عشر .. أى أقل من خمسين عام … ويظل الوالى فى منصبه لا عمل له سوى جمع المال واستصفاءه من أهله بمختلف وسائل النهب إلى أن يغادر منصبه “ وكان الوالي يدفع قبل تعيينه نصف مليون ريال على الأقل للباب العالى بالآستانة ، ولا تجدد ولايته سنة أخرى إلا بمائة الف ريال ، علاوة على خراج سنوي يقدر بـ 600 ألف للباب العالي ، غير الهدايا العينية من أرز وغلال . واستمر هذا الوضع المزري لعدة قرون سُميت فيما بعد بالعصر المملوكى التركى ( العثماني ) ، ويصف المفكر الاسلامى محمد عمارة تداعيات هذا الوضع بقوله : ” فى أواخر القرن الثامن عشر كانت الأغلبية الساحقة من أجزاء الوطن العربى رازحه تحت نير الاستعمار التركى ، وغارقة فى ظلمة التخلف العثمانى ، و لا تتجاوز حياتها الفكرية عوالم الشعوذة والدجل والخرافة “ .
ويتضح لنا ان مصر خضعت شكلياً لحكم الدولة العثمانية عبر تعيين والي يدين لها بالولاء ، ولكن فعلياً كانت البلاد رازحة تحت نير المماليك ، والمماليك هم سلالة من الجنود حكمت مصر والشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية أكثر من قرنين ونصف القرن وبالتحديد منذ 1250 إلى 1517 ميلادية ، وتعود أصولهم إلى آسيا الوسطى ، ويقال عنهم انهم كانوا عبيد من البيض تم أسرهم في الحروب منذ ان كانوا أطفالا صغارا أو مخطفون في غارات لصوصية أو كسبايا في حروب ، وكان يتم عرضهم على مندوبي الدول والحكومات في أماكن خاصة حيث يتم إفتداؤهم بمبالغ مالية تدفع للمسؤلين عنهم ، ويتم جلبهم إلى الدولة المعنية وهي هنا الدولة الأيوبية ومن قبلها الدولة العباسية ليتم تعليمهم دينياً حسب الشريعة الاسلامية ، وتدريبهم في مدارس عسكرية خاصة ليتخرجوا منها قادة وفرسانا وجنودا للخدمة فى الجيش ، وخدمة السلطان ومنع سقوط الدولة فى إيدى الأعداء .
واستولى المماليك على الحكم في نهاية حكم الدولة الأيوبية ، بسبب ضعف ملوكها وسلاطينها ، وبالرغم من تمكن السلطان العثماني سليم الاول سنة 1517م من القضاء على دولة المماليك ، وضم مصر ، والشام ، والحجاز إلى أراضي الدولة العثمانية ، إلا أن سيادة الدولة العثمانية كانت أسمياً فقط على تلك البلدان ، وكان المتحكم الرئيسي بها هم طبقة المماليك الذين حولوا البلاد إلى إقطاعيات خاصة بهم ، عانت من السرقة والنهب .
وقد لاقت الكنيسة القبطية ومسيحيو مصر أبشع درجات العنف والاضطهاد إبان عصر المماليك ، خاصتاً فى النصف الاخير من القرن الثامن عشر ، أثناء فترة الاحتلال الفرنسي على مصر ، الامر الذى أدى لتناقص أعدادهم بشكل كبير ، نتيجة المذابح التى تعرضوا لها من قبل المماليك والغوغائيين ، فتم نهب منازل الاقباط ودمرت كنائسهم وممتلكاتهم وأرواحهم ، فوصلت الكنيسة القبطية وشعبها لحالة يرثى لها الجبين ، وكادت تتلاشي من الوجود لولا تحنن الله ورأفته عليها ، فمنذ قدوم ”محمد على باشا“ لإرض مصر ، عمل على التخلص من حكم المماليك تدريجياً بالبلاد ، وتُشير المصادر التاريخية بأنهم كانوا يتجاوزون الثلاث الاف مملوكى ، وقد قضى عليهم على دفعات متفاوته ، وجاءت مذبحة القلعة الشهيرة لتُنهي ذكراهم إلى الأبد ، لتطوي مصر بذلك صفحة مظلمة من تاريخها الأسود بعد سبعمائة عام من حكم المماليك .
* الاقباط وكنيستهم ومعجزة البقـــاء :
” إن وُجد في العالم سبع عجائب فإن بقاء الكنيسة القبطية في مصر من إحدى تلك العجائب “ .
هكذا وصفت المؤرخة الانجليزية اديث بوتشر حال الكنيسة القبطية وشعبها بكتابها الشهير : ” تاريخ الامة القبطية “ ، الذى صدر عام 1900 ميلادية ، فتقول : ” لقد كانت حالة الكنيسة القبطية فى بدء القرن التاسع عشر فى أسفل درجات الانحطاط سواء أن كان فى عدد شعبها ، أو فى الظروف والمصائب التى حلت بها ، لاسيما بعد الاحتلال الفرنسي على مصر والذى أعقبه مذابح وجرائم أرتكبت بحق الاقباط على ايدى المسلمين المتعصبين ، فمن أول فتوحات مصر المتتابعة بواسطة كثير من الحكام المسلمين لغاية فتح الفرنساويين لها ، والاقباط البؤساء مسيحيو الكنيسة الوطنية المصرية هم أول من يقع على روؤسهم مساوئ الفاتحين والمصائب التى ترافق وتعقب كل فتح “ . لقد عانى الاقباط وكنيستهم من الاضطهادات المتلاحقة على ايدي المماليك والسلطنة العثمانية ، ووصفت مدام بواتشر تلك الاضطهادات : ” أنها كانت تزيد الرعايا العثمانيين تعاسة وعلى وجه الخصوص أقباط مصر التعساء ، فهم كانوا دائماً عرضه للسلب والنهب والاضطهاد الدينى “ ، حتى أصبحوا يواجهون خطر الفناء والتلاشى من الوجود مثل الهنود الحمر بأمريكا ، فقّد وصل تعدادهم عام 1805 ميلادية إلى 150 الف قبطى فقط لا غير .
وهنا تتدخل العناية الإلهية لتنقذهم فى اللحظة الاخيرة ، ويأتى محمد على باشا ، لينتشل مصر وشعبها من قاع الجهل والانحطاط ، فيقضى على حكم العسكر ( المماليك ) ، الذين دمروا البلاد والعباد ، ويقوم بتأسيس دولة قائمة على التسامح والمساواة بين جميع أطياف الشعب المصرى ليتوراث حكم البلاد من بعده ابناءه وأحفاده … حينها تنفس الاقباط وكنيستهم الصعداء وابتداءت تتحسن أحوالهم وظروفهم المعيشية تدريجياً ، فنهضوا من جديد ، حتى وصل تعدادهم عام 1855 ميلادية إلى مائتان وسبعة عشر ألف نسمة ( 217000 ) ، بينما كان تعداد كل سكان القطر المصرى فى ذلك الحين خمسة ملايين نسمة .
للحديث بقية
الوسوممايكل عزيز البشموري
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …